مثّلت زيارة الأمير محمد بن سلمان للولايات المتحدة واللقاءات التي عقدها مع الرئيس دونالد ترمب تطوراً مهماً في العلاقات الثنائية، وتدشيناً لتعاون أوسع متعدد المجالات، من شأنه أن يوفر شبكة أمان سياسية أكثر فاعلية، تعيد التوازن الإقليمي في الشرق الأوسط، بعدما اختلَّ نتيجة إصرار إسرائيل على استخدام القوة المفرطة في فرض وقائع على الأرض، وتكريس ذاتها شرطياً يوجه السياسات بالقوة وفق تصوراته ومصالحه الخاصة، وهي السلوكيات العدائية التي ترفضها المملكة وتعدها مضرة بالسلم الإقليمي.
لقد مر الشرق الأوسط بتحولات بنيوية منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وحتى اليوم. فقد وسَّعت إسرائيل نفوذها، وفقدت إيران كثيراً من قدراتها على استخدام أذرعها العسكرية الخارجية، وخرجت سوريا من «محور المقاومة»، فيما تشهد غزة عمليات تهجير تهدف من خلالها الحكومة المتطرفة في تل أبيب إلى منع قيام الدولة الفلسطينية؛ هذه التغيرات العميقة وسواها تجعل من التعاون السياسي والأمني والدفاعي بين الرياض وواشنطن عنصراً حاسماً في منع الانزلاق نحو فوضى طويلة، تستفيد منها المجاميع الإرهابية المسلحة!
من هذا المنظور، يمكن فهم أسباب الإعلان عن اتفاقية الدفاع الاستراتيجي وموافقة الرئيس الأميركي على بيع السعودية مقاتلات F-35، بوصفها خطوات مترابطة لإعادة تعريف دور الرياض ومكانها وشكل التحالف مع واشنطن.
إعلان الرئيس دونالد ترمب خلال مأدبة العشاء الرسمية أن بلاده ستُصنف السعودية «حليفاً رئيسياً من خارج الناتو» يمنح العلاقة العسكرية وضعاً قانونياً وسياسياً متقدماً، خصوصاً إذا تم تحويل اتفاقية الدفاع إلى «معاهدة»، ولم يمانع أعضاء الكونغرس إتمام صفقة المقاتلات الحربية. هذا التصنيف لا يعني التزاماً صريحاً بالدفاع المشترك بشكل مفتوح، لكنه يوفر مستوى من الامتيازات لا يُمنح إلا لعدد محدود من الدول، من بينها تسهيلات واسعة للحصول على أنظمة تسليح متقدمة، وأولوية في برامج التدريب والجاهزية، وتوسيع نطاق التخزين المسبق للعتاد، وتعزيز قابلية العمل البيني بين القوات المسلحة السعودية والأميركية.
بالعودة إلى اتفاقية الدفاع الاستراتيجي فإنها تأتي ضمن هذه العلاقة الأوسع بين الرياض وواشنطن. كما أنها تعكس وقوف البلدين بوصفهما حليفين أمنيين بارزين، يعملان معاً لمواجهة التهديدات المشتركة، كما تضع إطاراً لشراكة حقيقية مستمرة ودائمة، ستعزز التفاهمات السياسية وتشابك المصالح الاقتصادية. هذه «الاتفاقية» ليست موجَّهة ضد دولة بعينها؛ فالمملكة ترى في الدبلوماسية والحوار وردع الاعتداءات في الوقت نفسه، الطريق الأمثل لحل النزاعات، مفضِّلةً طاولة التفاوض على الحرب، وهذا تحديداً ما حصل مع إيران، بعد توقيع «اتفاق بكين».
الطرح السعودي تسعى من خلاله المملكة إلى التحضر لأي تغيرات مفاجئة قد تحصل، في منطقة شديدة السيولة أمنياً وسياسياً. ولذا، فبناء منظومة دفاعية متطورة لا يعني السعي نحو الصدام، بل توفير أدوات تمنع التصعيد وتُصعِّب على الميليشيات المسلحة أو الدول الإقليمية ذات الأطماع التوسعية استغلال أي حدثٍ لإشعال ساحات جديدة، والاعتداء على الأراضي السعودية، أو تهديد المصالح الاقتصادية!
ملف مقاتلات F-35 يحضر بثقلٍ كبير عند الحديث عن التعاون العسكري السعودي - الأميركي، إذ أعلن ترمب عزمه المضيّ في بيعها للمملكة، مع بقاء التفاصيل الفنية والإجرائية بانتظار اكتمال المفاوضات. هذه الصفقة -إذا أُنجزت- ستشكل نقلة نوعية في العقيدة الدفاعية السعودية. فالمقاتلة الشبحية متعددة المهام ستمنح الرياض قدرة متقدمة على العمل في بيئات دفاعية شديدة التعقيد، وستحول القوات الجوية إلى منصة عمليات شبكية قادرة على جمع البيانات ودمجها وتحويلها إلى قرارات ميدانية دقيقة. إدخال هذه المنظومة يفرض تحديثاً موازياً في شبكة القيادة والسيطرة، ومستويات التدريب، وربط القوات الجوية والبرية والبحرية داخل إطار موحد أكثر قدرة على الاستجابة السريعة، ولذا ستعمل المملكة على هذه الاستراتيجية لأنها تمنحها قدرات حديثة لا تمتلكها إلا دول محدودة.
بموازاة تعزيز الردع السعودي الذي تمت الإشارة إليه أعلاه، حافظت الرياض على نهجٍ دبلوماسيٍّ عقلانيٍّ ونشط، سواء عبر التهدئة المستمرة مع إيران والحوار المتواصل معها من أجل حل المشكلات العالقة، أو قنوات التواصل مع الحوثيين بهدف الدفع نحو عودة الحكومة الشرعية في اليمن بمشاركة جميع المكونات، كما التنسيق مع القوى الدولية والتعاون مع فرنسا ضمن مبادرة «مؤتمر حل الدولتين»، يضاف إلى ذلك الدعم السعودي لمبادرة الرئيس ترمب لإنهاء الحرب في قطاع غزة. هذا المزج بين الحوار والردع يعكس منهجية تستند إلى مقاربة واقعية ترى أن الأمن الإقليمي لا يتحقق بالقدرة العسكرية وحدها، ولا بالدبلوماسية وحدها، بل بالجمع بينهما وفق ميزان مدروس، لأن السياسة حتى لو كانت مرتكزة إلى منطق واقعي وقيمي ومقنع، ستكون من دون فاعلية إذا لم تكن هنالك قوة ترفدها وتحرسها وتدعم تحقق أهدافها.
إن ما بعد اللقاء السعودي - الأميركي في البيت الأبيض هو اختبار لقدرة البلدين على تحويل الاتفاقيات والتصريحات إلى برامج تنفيذية واضحة. وفي الوقت ذاته، سيكون المشهد الإقليمي -المتغير منذ «طوفان الأقصى»- عاملاً ضاغطاً يقيس مدى صلابة وتماسك هذا المسار. ومع ذلك، يبدو الاتجاه العام واضحاً، من خلال تعزيز القوة العسكرية السعودية، ومأسسة الشراكة الدفاعية، وتكريس المملكة فاعلاً سياسياً وأمنياً وازناً يسعى إلى تقليل تكلفة الصراعات بقدر ما يعمل على منع وقوعها، لأن الرياض ترى في اضطرابات الإقليم المستمرة، أكبر عائق يعطل خطط التنمية، ويعوق تحقيق أهداف برامجها الاقتصادية - الاستثمارية الكبيرة والطموحة.

