: آخر تحديث

الحاج المنياوي والجاسوسية على «الإخوان»

1
1
1

قلت في خاتمة المقال السابق: إن سيد قطب لم يدرِ أن اتهامه للحاج محمد حلمي المنياوي بأنه ممثل الاستخبارات الإنجليزية في جماعة «الإخوان المسلمين»، يضره أكثر مما ينفعه.

وقبل أن أناقش صحة هذا الاتهام، يحسن بي أن أقدم بعض التعريف بالحاج المنياوي.

الحاج محمد حلمي المنياوي حين تعرَّف إليه سيد قطب في أواخر الأربعينات الميلادية، كان يملك دار نشر ومطبعة هما من كبريات دور النشر والمطابع في مصر، باسم «دار الكتاب العربي»، بالإضافة إلى كونه عضواً في الهيئة التأسيسية، وعضواً في مكتب إرشاد جماعة «الإخوان المسلمين».

يمدنا الناشر والأديب والمترجم سعيد جودة السحَّار في سيرته الذاتية (مواقف في الحياة) ببدايات عمل المنياوي في قطاع الطباعة، فيقول: «كان رئيس العمال بالمطبعة الرحمانية بالخرنفش، ثم استقال منها، وعمل رئيساً للعمال بمطابع بشارع مصنع الطرابيش. وكان صاحب مطابع الحلبي يثق في أمانته ثقة مطلقة، فسلَّمه مبلغ سبعة آلاف جنيه ووسَّطه في شراء كمية ورق من الجيش البريطاني، فعاد وقال له: إنه اشترى كمية الورق وحمَّلها على العربات وأخبر السائقين بعنوان المطبعة. وانتظرهم حلمي طويلاً، ولكنهم لم يحضروا واستولوا على الورق لأنفسهم. فاضطر صاحب المطبعة أن يبلغ القسم بالواقعة، فسأله الضابط إن كان يشكك في محمد حلمي المنياوي، فقال إنه يثق فيه كل الثقة، ويستبعد أن يخون الأمانة، فما كان من الضابط إلا أن أطلق سراحه».

المرحلة الثانية من حياة الحاج حلمي المنياوي العملية حصلت فيها انتقالة ناجحة. فبعد أن كان رئيس عمَّال في مطبعتين، أصبح صاحب تجارة في الحرفة نفسها؛ حرفة الطباعة.

يطلعنا سعيد السحار على هذه المرحلة وما حققه فيها من نجاح كبير، قائلاً: «أنشأ محمد حلمي المنياوي بعد ذلك محلاً لبيع الورق، والغريب أنه لم يمضِ وقت طويل إلا وقد صار هو المهيمن على تجارة الورق في مصر، وأصبح كل أصحاب المطابع يشترون منه ما يلزمهم من أصناف الورق، فهو ذو شخصية، وله تأثير عجيب على كل من يعاملونه أو يتصلون به».

سعيد السحار تعرَّف إلى الحاج حلمي المنياوي بعد أن اشترى مكتبة صغيرة في شارع الفجالة عام 1932، اسمها «مكتبة مصر». اشتراها بُعيد تخرجه في كلية الآداب، قسم الأدب الإنجليزي، بجامعة فؤاد الأول، بمعاونة من أبيه المشتغل بالتجارة. وحديثه عن حياة المنياوي في المرحلتين السالفتين، وكذلك عن المرحلة الثالثة، يرجع تاريخه إلى أول الثلاثينات الميلادية وأوسطها.

يقول السحار عن المرحلة الثالثة في حياة المنياوي العملية: «دخل حلمي المنياوي المكتبة، وعرف المشكلة التي كنا نتعرض لها، فقال لي: إن بالقرب من محلي بشارع الأمير فاروق (الجيش فيما بعد) محلّاً واسعاً كنت أفكر في استئجاره ليكون مخزناً للورق، فما رأيك لو تشاركنا –أنا وأنت– وافتتحنا مطبعة كبيرة تخدم مصالحنا نحن الاثنين؟ قلت في نفسي: هذه نجدة هبطت عليَّ من السماء في الوقت المناسب. فرحبتُ باقتراحه، وعقدنا اتفاقاً بيننا على الفور. واحتار حلمي المنياوي في اختيار اسم للمطبعة الجديدة، فاقترحت عليه اسم (دار الكتاب العربي) فوافق عليه، وأصبحت أرسل إلى (دار الكتاب العربي) ما أحتاج إلى طبعه من الكتب، فتُصف حروفها وتُطبع ثم تُرسل إليَّ».

نستخلص من قول السحار الأخير أن مطبعة «دار الكتاب العربي» سبقت دار النشر التي تحمل هذا الاسم في النشوء. وأن السحار في البداية كان شريكاً في ملكية هذه المطبعة، وأنه هو من اقترح اسمها. وفيما يبدو أن السحار باع نصيبه فيها، ففي عام 1940 أنشأ مطبعة خاصة بمكتبته، سماها «دار مصر للطباعة».

رغم شح المعلومات التي يقدمها «الإخوان المسلمون» عن الحاج حلمي المنياوي، فإنهم يزعمون أنه «تلقى تعليمه في مدارس القاهرة حتى تخرَّج في الجامعة». أشكك في أنه حاز تعليماً جامعياً. فالرجل –مما رواه السحار– بدأ حياته العملية «عاملاً» في مجال الطباعة. وهذا لا يقدح في نبوغه الشخصي، فقد صعد في حرفته من «عامل» إلى «رئيس عمال» ثم إلى تاجر ورق، ثم إلى شريك في مطبعة كبيرة، ثم إلى مالكها كاملة، وبرفقتها ملكية دار نشر مرموقة.

وعلى الصعيد الحزبي، انتقل من عضو عادي في جماعة «الإخوان المسلمين» إلى عضو في «الهيئة التأسيسية»، ثم صار عضواً في «مكتب الإرشاد». والعضوية في هذا المكتب هي أعلى مرتبة في هذه الجماعة. فالإدارة العليا لهذه الجماعة تنحصر سلطاتها في هذا المكتب.

قال عنه ج. هيوارث دن –وهو يتحدث عن عام 1948– إنه أحد ذوي النفوذ في «الإخوان المسلمين». وقال عنه خالد محمد خالد –وهو يتحدث عن أواخر عام 1947– إنه كان من الصف الأول في «الإخوان المسلمين».

حاز لقب «الحاج»، والتصق باسمه مذ كان في العشرينات من عمره، فهذا سعد محمد حسن (من علماء الأزهر ومدرِّس بوزارة المعارف) يقول في مقدمة كتابه: «المهدية في الإسلام منذ أقدم العصور حتى اليوم: دراسة وافية لتاريخها العقدي والسياسي والأدبي»: «كما لا يفوتني أيضاً أن أقدم الشكر الخالص من الأعماق لرجال (مطابع دار الفكر العربي) وعلى رأسهم مديرها وصاحبها الشاب المؤمن الحاج محمد حلمي المنياوي». المقدمة مؤرخة بشهر سبتمبر (أيلول) 1953. والحاج المنياوي من مواليد عام 1906. فهو ولد في العام نفسه الذي ولد فيه سيد قطب وحسن البنا.

ومن قراءتي في تاريخ الطباعة والنشر في الكويت وفي السعودية، لاحظت أن اسم «دار الكتاب العربي» يتردد، لدور ما لها في هذا التاريخ.

سيد قطب تعرَّف إلى الحاج حلمي المنياوي قبيل صدور مجلة «الفكر الجديد» وخلال صدورها؛ لأن المجلة كانت ممولة مالياً –كما ذكرت ذلك مصادر عدة– من الحاج حلمي المنياوي، وكانت –كما ذكر علي شلش في كتابه «التمرد على الأدب»– تطبع في «دار الكتاب العربي» التي كان يملكها المنياوي.

المجلة صدرت في 1 يناير (كانون الثاني) 1948، واستمرت في الصدور حتى شهر أبريل (نيسان) من ذلك العام. المجلة صدر منها اثنا عشر عدداً.

مصادر كثيرة ذكرت لنا متى تعرَّف سيد قطب إلى المنياوي؛ لكنها لم تذكر كيف تعرَّف إليه. أي: هل تعرَّف إليه مباشرة؟ أم تعرَّف إليه بواسطة شخص ثالث؟ فهي إن فصَّلت في الحديث عن هذه المحطة في حياة سيد قطب، محطة مجلة «الفكر الجديد» -وهي محطة مهمة على قصر مدتها- فإن جُل ما تذكره عنها أن سيد قطب فكَّر في إنشاء مجلة، وبحث عن ممول لها، فوجد ضالته في الحاج حلمي المنياوي.

في كتاب خالد محمد خالد الذي دوَّن فيه سيرته الذاتية، وهو كتاب «قصتي مع الحياة» الذي صدر عن مؤسسة «أخبار اليوم» عام 1993، تتوفر معلومات مفيدة في مقال من مقالات هذا الكتاب، وهو مقال: «أفسحوا الطريق فإننا قادمون»، عن الشخص الذي فكَّر في إنشاء هذه المجلة؟ وكيف ولماذا نشأت؟ ولماذا اختير المنياوي لتمويلها؟ وما نوع التحدي العقائدي الذي في ظلِّه ألَّف محمد الغزالي كتابيه في 1947 و1948: «الإسلام والأوضاع الاقتصادية»، و«الإسلام والمناهج الاشتراكية»؟ وما نوع التوجه الفكري الذي كان يفترض بخالد محمد خالد في هذين العامين أن يظهر به على القراء بكتاب؟ وذلك قبل أن يظهر عليهم في عام 1950 بتوجه علماني اشتراكي ثوري في كتابه الأول: «من هنا نبدأ».

سأبدأ في الإجابة عن السؤالين الأخيرين، وستكون الإجابة عنهما مدمجة في إجابة واحدة، مستنبطة مما قاله خالد محمد خالد في ذلك المقال بتلك السيرة.

التحدي العقائدي الأبرز في الأربعينات الميلادية في مصر، كان نشوء تنظيمات شيوعية جديدة تبشِّر بالعقيدة الشيوعية، وتبثها في فئات وطبقات مختلفة في المجتمع المصري، منها –يا لعظم المفارقة– فئة طلاب كليات الأزهر!

مشايخ جامع الأزهر في تلك الآونة كانوا في غفلة وسبات عن ذلك التحدي، وعن تحديات آيديولوجية وثقافية غربية أخرى.

السؤال الذي كان يشغل بال خالد محمد خالد في المنتصف الثاني من عقد الأربعينات الميلادية –بوصفه أزهرياً ومن المنتمين في ذلك العقد إلى جمعية دينية غير إخوانية هي «الجمعية الشرعية»- هو: أين الاهتمام بتقديم الفكر الإسلامي والعربي؟ وماذا أعطى جيلنا العالم من فكره العربي والإسلامي في عصر يمور موراً بالقضايا الكبرى، كالديمقراطية والاشتراكية، وبالقضايا الاجتماعية والتربوية؟

يقول خالد محمد خالد: «لا بد من أن نحمل تبعات قدر إمكاناتنا وجهدنا. وحملت خواطري هذه إلى أخي الكريم الشيخ محمد الغزالي، واتفقنا على أن يبادر أحدنا بإصدار كتاب في أي من موضوعات الساعة، وآثر الشيخ أن يكون الموضوع: الإسلام والأوضاع الاقتصادية، والإسلام والمناهج الاشتراكية. قلت: وإذن، فأنت خير من يكتب هذين الكتابين، ويجلي فقه الإسلام في هذين الموضوعين».

الغزالي أصدر كتابه الأول عام 1947، وأصدر كتابه الثاني عام 1948. كتابه الأول صدر عن «دار الكتاب العربي»، وكتابه الثاني صدر عن «لجنة النشر للأزهريين». وبياناته لا تذكر أين طُبع، فهذه اللجنة لم تكن تملك مطبعة.

في حديث يوسف القرضاوي عن خالد محمد خالد في كتابه «سيرة ومسيرة»، يقول: «وكان هو مع الشيخ محمد الغزالي وبعض الأزهريين قد أنشأوا فيما بينهم لجنة سمّوها (لجنة النشر للأزهريين) شعارها (الدين في خدمة الشعوب) ردّاً على الماركسيين الذين يقولون: (الدين أفيون الشعوب). وكان مما تبشر به اللجنة: كتاب للشيخ خالد محمد خالد، عنوانه (يا أربعمائة مليون هبُّوا)، وكان هذا الرقم هو العدد الشائع عن المسلمين في ذلك الوقت، وكانت اللجنة قبل (لجنة الإخوان) ودخول المعتقلات تقول: انتظروا هذا الكتاب».

كتابه الإسلامي المنتظر لم يصدر؛ لأنه صرف النظر عن إصداره؛ لأنه كان يعيش مخاض تحول إلى العلمانية. فعوضاً عن أن يجابه الماركسية بإسلام شمولي مصطنع ومخترع، كما فعل صديقه الغزالي في كتابيه المذكورين، اعتنقها بروح ليبرالية وبنكهة دينية تجديدية ثورية.

إبَّان تحوله للعلمانية اليسارية احتفظ بشعار اللجنة الأزهرية: «الدين في خدمة الشعوب» لكن مع تحوير وطني مصري اشتراكي له. فمع قيام ثورة 23 يوليو (تموز) 1952، ألقى أحاديث في الإذاعة المصرية تحت عنوان «الدين في خدمة الشعب». هذه الأحاديث صدرت في كتاب يحمل هذا العنوان عام 1953. وفي طبعته الثالثة اختصر هذا العنوان إلى «الدين للشعب»... وللحديث بقية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد