: آخر تحديث

زيارة ولي العهد لأمريكا هي هندسة تحرك الجغرافيا السياسية بإيقاع سعودي جديد

3
3
3

منيرة أحمد الغامدي

في المشهد العالمي الاستراتيجي جاءت زيارة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة كحدثٍ لا يُقرأ في حدود الدبلوماسية التقليدية، بل كخطٍّ فاصل يعلن انتقال السعودية من دور المتفاعل إلى دور المُشكّل لمعادلات القرن الحادي والعشرين. لم تكن الزيارة اجتماعًا روتينيًا بين دولتين حليفتين بل كانت إعلانًا صريحًا بأن المملكة تدخل مرحلة جديدة من هندسة علاقاتها الدولية لا بوصفها دولة نفطية فحسب بل بوصفها قوة صاعدة تمتلك مشروعًا ورؤية وقدرة تنفيذية غير مسبوقة. إنها زيارة من نوع جديد حيث لا تذهب الدولة بمطالبها بل برؤيتها، فالسعودية جاءت لواشنطن برؤية مكتملة وبأرقام ومشاريع وخرائط طريق تجعل الشراكة خيارًا أمريكيًا بقدر ما هي خيار سعودي، وهي زيارة لا تبحث عن ضمانات بل تمنح ضمانات للاستقرار العالمي عبر دور المملكة في الطاقة والذكاء الاصطناعي والتحولات الخضراء وسلاسل الإمداد.

ومع اتساع حضور السعودية في ملفات الطاقة والمناخ والتقنية والتوازنات الدولية بدا واضحًا أن هذه الزيارة تعيد تعريف صورة الشرق الأوسط، إذ لم تعد المنطقة إطارًا للأزمات ورواسب مرحلة الحرب الباردة بل فضاء للتنمية الكبرى والاستثمارات الضخمة والمدن المستقبلية والحلول الخضراء التي تسبق العالم. الرسالة المباشرة وغير المباشرة هنا أن السعودية لا تتعامل مع الشرق الأوسط كإقليم محدود بل كبوابة للعالم بأكمله وتعمل على تحويل المنطقة إلى مركز جاذبية لا مركز نزاعات وإلى منصة لحلول مستقبلية لا بوابة لمشاكل قديمة.

ومن النقاط التي تستحق قراءة أعمق وربما الأكثر تفردًا أن هذه الزيارة تكشف جانبًا نادرًا في شخصية ولي العهد فهو ليس رجل سياسة تقليديًا بل أقرب إلى مهندس حضاري يستخدم عقلية البناء وإعادة التصميم في التعامل مع الملفات العالمية. فالقائد التقليدي يدير الملفات، أما المهندس فيعيد صياغتها وهندستها. وهذه الزيارة تُظهر أن الأمير يتعامل مع العالم كما يتعامل مع مشروع؛ فهو يدرس عناصره ويعيد ترتيبها كما يعيد توزيع القوى داخله ثم ينتج صيغة جديدة أكثر توازنًا وتأثيرًا. إنه تفكير بنيوي - Structural Thinking - لا يقتصر على السياسة بل يمتد لقراءة الواقع وتحليل نقاط القوة وصناعة البدائل ورسم المستقبل. هذه القراءة تمنح الزيارة بُعدًا يتجاوز الدبلوماسية لتصبح مثالًا على الهندسة الجيوسياسية التي تبدأ من الرياض وتنعكس على العالم.

ومن هذه الزاوية العميقة يبرز الاستنتاج بأن الولايات المتحدة لم تعد شريكًا أعلى بقدر ما أصبحت شريكًا موازياً، فالتوازن الجديد جاء لأن السعودية تمتلك اليوم بدائل حقيقية مثل الصين وأوروبا والهند وكوريا واليابان وغيرها. لم تعد التحالفات تعتمد على انعدام الخيارات بل على تنوعها وهذا ما جعل واشنطن تنظر إلى الرياض كلاعب لا يمكن تجاوزه وشريك لا تُصنع المعادلات بدونه، وقوة صاعدة تتحرك بثقة وتفرض إيقاعها على المشهد العالمي. وهنا تتجلى وللمرة الأولى ملامح نموذج جديد في العلاقات الدولية تبنيه المملكة يعرف بالتحالفات الموازية Parallel Alliances وهو مفهوم يدل على أن السعودية لم تعد تنتمي إلى محور واحد بل تُدير شبكات تحالفية متوازية اقتصادية، وتقنية وصناعية وخضراء دون أن تتقاطع أو تتصادم بل تتكامل لصالح تأثير سعودي أشمل.

وتتجلى ملامح التحالف الجديد في كونه شراكة في هندسة المستقبل لا في إدارة الأزمات إذ تنتقل العلاقة بين البلدين من منطق حماية المصالح إلى منطق بناء المستقبل عبر ملفات غير تقليدية مثل الذكاء الاصطناعي والتقنية الناشئة والطاقة المتجددة واقتصاد الفضاء والأمن السيبراني والمدن المستقبلية. لم تعد واشنطن الشريك الوحيد القادر على صياغة الغد بل باتت الرياض شريكًا كاملًا في صناعته. هذه النقلة العميقة تؤشر إلى أن المستقبل في العلاقات الدولية لن يُبنى على من يملك القوة فقط بل على من يملك المشروع والرؤية والقدرة على إنشاء أنظمة جديدة.

وفي موازاة ذلك تتوسع القوة الناعمة السعودية لتصبح قوة إنجاز تُصدّر نموذجًا جديدًا للنهضة، نموذجًا يقوم على المشاريع الكبرى والقدرة التنفيذية العالية وحركة القطاعات التي تغيّر الصورة النمطية لا للمنطقة فحسب بل للدور السعودي عالميًا. هذه القوة الناعمة تأتي من القدرة على تحويل الرؤى إلى حقائق والمشاريع إلى إنجازات والاستراتيجيات إلى حركة دائمة تُقرأ في تقارير الاقتصاد العالمي وتوازنات القوى. السعودية تدخل اليوم مرحلة جديدة يمكن وصفها بأنها مرحلة ترقيم النفوذ Influence Indexing أي قياس وزن الدولة عالميًا ليس بمواردها فقط بل بقدرتها على صياغة الأجندة الدولية وتحديد اتجاهات السوق والابتكار وهو معيار حديث لا تصل إليه سوى الدول القائدة.

وهكذا يمكن قراءة الزيارة كفصل جديد من مشروع حضاري وليست حدثًا دبلوماسيًا منعزلًا، فهي جزء من سردية سعودية تتشكل على مدى عقد من الزمان وهي سردية تقول: إن الدولة تستطيع في سنوات قليلة أن تعيد رسم صورتها وموقعها وأن الشرق الأوسط قادر على أن يصبح مركز توازن عالمي وأن النهضة ليست مشروعًا اقتصاديًا بل تحوّل في الوعي الجمعي للأمة، وهذه السردية تقوم على فكرة محورية وهي أن المستقبل لا ينتظر بل يُصنع من حلم.

ومن هذه الزاوية أيضًا يتضح أن قرارات السعودية أصبحت أصبحت تحرك أسواق الطاقة وتوجّه التحولات التقنية وتعيد تشكيل التحالفات الإقليمية والدولية. لم يعد العالم يتعامل مع المملكة وفق الصورة النمطية القديمة بل وفق واقع جديد يقول: إن السعودية هي الدولة التي تملك القدرة على أن تكون في قلب كل نقاش عالمي حول الأمن والاستقرار والتنمية، ويكتمل المشهد حين ندرك أن واشنطن اليوم تقرأ المستقبل من نافذة أن الرياض تمتلك موقع مركز طاقة عالمي وريادة في المشاريع الخضراء وتقدمًا في الذكاء الاصطناعي وقدرة على بناء تحالفات متعددة الاتجاهات مما يجعل الزيارة إعادة صياغة فعلية للسياسات الأمريكية تجاه المنطقة.

وتحمل الزيارة رسالة للعالم مفادها أن السعودية لا تنتظر التغيّر بل تصنعه وأن الدور السعودي لم يعد مرتبطًا بموارد الدولة فقط بل برؤية قادرة على تحويل الحلم إلى سياسة والمشاريع إلى واقع والأفكار إلى جاذبية عالمية. لذلك، تأتي هذه الزيارة كحدث يُكتب في كتب العلاقات الدولية لكونها نموذجًا لتشكّل قوة صاعدة تعلن أن المملكة لا تنتظر الاعتراف بمكانتها الجديدة بل تفرضها وتبنيها وتقدم للعالم مستقبلًا واسع الأفق سيكون الجميع جزءًا منه.

إنها زيارة تُظهر أن الجغرافيا السياسية لم تعد تُكتب بعيدًا عن الرياض وأن التحالفات الكبرى لم تعد تُعقد دون حضورها، وأن المستقبل أصبح يُصاغ بإيقاع سعودي جديد يعيد تعريف القوة ويمنح الشرق الأوسط مركزًا في قلب العالَم لا في أطرافه. كما تكشف هذه اللحظة التاريخية أن ولي العهد ينتمي إلى ما يُعرف في الدراسات القيادية بالجيل الثالث من القيادة العالمية The Third Generation of Global Leadership وهو الجيل الذي لا يكتفي بإدارة الأزمات كما في الجيل الأول، ولا بتوسيع الاقتصاد كما في الجيل الثاني بل يصمم أنظمة جديدة بالكامل للعالم، من الطاقة إلى المدن إلى السياسات الدولية وهو ما يجعل السعودية جزءًا من صناعة مستقبل العالم لا جزءًا من تفاعلاته فقط.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد