: آخر تحديث

أزمة ستارمر: الهروب للخارج أم الانزلاق لليمين؟

1
1
1

في تطور غريب على بريطانيا، طرحت وزيرة الداخلية شهبانة محمود سياسات جديدة للهجرة، تقليداً لسياسة الدنمارك المتشددة. إجراءات مثيرة للجدل كترحيل أطفال المهاجرين، وانتظار عشرين عاماً قبل الحصول على الإقامة الدائمة. بعض نواب حزب «العمال» الحاكم وصفوها بالعنصرية، والزينوفوبية (معادية للأجانب)، والقسوة. في السياق الأعمق، يبدو أن رئيس الوزراء كير ستارمر، الذي انهارت شعبيته (-54 في المائة سلباً) وفق استطلاعات الرأي، فقد الأمل في استعادة أصوات اليسار من حزب «الخضر» (17 في المائة) و«العمال» (19 في المائة) هذا الأسبوع، فقرر استمالة أصوات اليمين التي تفضل الخطاب الشعبوي لحزب «الإصلاح» (30 في المائة).

الهجرة والهوية أصبحتا في قلب اهتمامات الناخب البريطاني، مما يفسر مهاجمة ستارمر لزعيم «الإصلاح»، نايجل فاراج، على الطائرة، في رحلته إلى جوهانسبرغ لحضور قمة العشرين. الرحلة الرابعة عشرة التي يذهب فيها ستارمر في مهام خارج البلاد في 14 شهراً منذ انتخابه؛ ما غذّى الانتقادات بأنه «يهرب إلى الخارج» بدلاً من مواجهة مشاكل الداخل ومعالجة هموم المواطنين. تصريحاته الحادة ضد فاراج، كانت بشأن تعليقات لنائبة «الإصلاح»، سارة بوتشين، بأن هناك «وجوهاً سوداء وبنية أكثر من اللازم» في الإعلانات التلفزيونية، وفسره كثيرون بـ«العنصرية».

ستارمر، المتهم بالضعف وعدم الحسم، وصف فاراج بالضعف، وعدم الصلابة، مضيفاً أنه كان سيتعامل بحسم لو صدر ذلك عن نائب من حزبه؛ وتساءل عن عجز فاراج عن اتخاذ موقف حازم تجاه «العنصرية في تصريحات زميلته».

الهجوم المباشر غير المسبوق يعكس حالة الذعر السياسي، بينما يحاول ستارمر استعادة زمام المبادرة في ميدان الرأي العام من «الإصلاح» المتقدم في استطلاعات الرأي.

التوتر ينعكس في وستمنستر أيضاً؛ ففي جلسة المساءلة الأسبوعية (الأربعاء) لرئيس الوزراء، هاجم ستارمر، فاراج، في إجابته عن مداخلة نائب الإصلاح، لي أندرسون، الذي قوطع حديثه بموجات من الضحك والضوضاء وعبارات التهكم من نواب حزب «العمال». الظاهرة تتكرر في الجلسات الأخرى، وحتى من نواب «الديمقراطيون الأحرار»، في محاولة واضحة لعرقلة خطاب «الإصلاح» داخل القاعة. ديناميكية تكشف عن خوف دفين من أن يتحول «الإصلاح»، إلى قوة برلمانية مؤثرة، رغم حداثة تجربته وقلة عدد نوابه (5 فقط من 650).

الأرقام تدعم هذا التحول. حزب «الإصلاح» يتقدم «العمال» بفارق 14 في المائة في الاستطلاعات، مع تراجع «المحافظين» أيضاً (17 في المائة)، مما يوضح خريطة انتخابية مجزأة تشير إلى أن البريطانيين لم يعودوا يصطفون حول رايات الحزبين الكبيرين التقليدية. أولويات الناخب (حسب الاستطلاعات): أزمة تكلفة المعيشة والأمن الاقتصادي، في الصدارة، ويليها وضع الخدمات العامة، وبخاصة الصحية، ثم ملف الهجرة (المؤثر سلباً في الثلاثة) والتماسك الاجتماعي، وأزمة الثقة العميقة في المؤسسة السياسية نفسها.

الناخب البريطاني لم يعد يرى في «المؤسسة» ضماناً للاستقرار؛ بل يعدّها جزءاً من المشكلة، فيبحث عن بدائل خارج الأحزاب التقليدية، مما يفسر صعود «الإصلاح» يميناً و«الخضر» يساراً. في هذا السياق، تتجه سياسات وزيرة الداخلية الجديدة إلى اليمين، في محاولة لإعادة الإمساك بملف الهجرة، لكنها قد تزيد من فقدان الثقة؛ إذ تبدو استجابة لضغوط «الإصلاح» لا بوصفها خطة مدروسة.

الملاحظات المهمة: ما يحدث مع المجموعة الصحافية البرلمانية بعد جلسات الأربعاء، مساءلة رئيس الوزراء الأسبوعية. فلعقود، يتجمعون عند مدخل المنصة الصحافية مع السكرتير الصحافي للحكومة والمستشارة السياسية لرئيس الوزراء. بعدها تتولى السكرتارية الصحافية لحزب المعارضة (المحافظين حالياً) الحوار مع الصحافيين. في الأسابيع الأخيرة بدأت مجموعة الصحافة البرلمانية تتجمع حول سكرتارية صحافية ثالثة: متحدث «الإصلاح» ومستشار فاراج السياسي. تطور غير مسبوق؛ حتى في أثناء فترات حقق فيها «الديمقراطيون الأحرار» مكاسب كبيرة في المقاعد البرلمانية. اليوم لم يعد «الإصلاح» مجرد تيار احتجاج؛ بل أصبح طرفاً رئيسياً في معادلة السياسة البريطانية، فحين يقرر الصحافيون أن الوقت حان للإنصات لزعامة الإصلاح، فهم يعكسون اهتمامات قرائهم ومستمعيهم ومشاهديهم، بأن طرفاً ثالثاً بات جزءاً من المشهد السياسي الدائم.

السياسة البريطانية تدخل مرحلة جديدة من التشظي؛ لم تعد ثنائية «العمال» و«المحافظين» صاحبة البيت السياسي؛ بل توزعت الملكية بين قوى متنافسة يتصدرها «الإصلاح» بخطاب شعبوي، وتتعزز بأزمة ثقة في النظام نفسه. مشهد التجمعات الصحافية الثلاثية بعد مساءلة رئيس الوزراء ليس تفصيلاً بروتوكولياً؛ بل علامة على تغير اللعبة: سياسة تعددية مضطربة، وصراع على الهوية، ومؤسسات تواجه أزمة شرعية، ورئيس حكومة حائر بين الهروب إلى الخارج أو الانزلاق نحو سياسات أكثر يمينية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد