: آخر تحديث

ماذا تُخفي أرقام انتخابات كوت ديفوار من تحولات؟

3
2
2

الانتخابات الرئاسية في كوت ديفوار (ساحل العاج سابقاً) انتهت كما بدأت: بلا مفاجآت، وبنتائج شبه محسومة للرئيس الحسن واتارا الذي حسم السباق بفارق واسع أمام منافسيه، في مشهد يوحي بالاستقرار السياسي، والأهم أنه كان نصراً هادئاً، تفادى منزلقات كثيرة أحاطت بالانتخابات، في بلد لطالما كانت صناديق الاقتراع فيه مملوءة بالبارود والرصاص.

لكن نصر واتارا يخفي في العمق تحولات اجتماعية وديموغرافية، قد تعيد رسم ملامح السلطة في هذا البلد الأفريقي الكبير.

النتيجة المعلنة لم تكن سوى تتويج لمسار بدأ منذ عودة واتارا إلى الحكم عام 2011، بعد الحرب الأهلية التي قسمت البلاد بين شمال ذي غالبية مسلمة وجنوب ذي أغلبية مسيحية. فالرجل الذي كان يوماً ما رمزاً لتلك الهوة العميقة والانقسام الموجع، أصبح اليوم عنواناً لسيطرة سياسية كاملة للشمال، أو بالأحرى لمجموعة «الديولا» التي شكَّلت عبر العقود الماضية أحد أهم المكونات التجارية والدينية في غرب أفريقيا.

لم تكن المنافسة هذه المرة حقيقية بالمعنى الديمقراطي؛ إذ تم استبعاد أبرز الوجوه المعارضة، أو أُضعفت حظوظها سلفاً، بينما اكتفت الشخصيات السياسية الجنوبية بالمشاركة الرمزية، أو بتقديم التهاني للرئيس الفائز، رغم تحفظها على الأرقام النهائية. ومع ذلك، فإن ما أفرزته صناديق الاقتراع يتجاوز مسألة الفوز أو الهزيمة؛ إذ يكرس واقعاً جديداً في المعادلة الوطنية الإيفوارية: انتقال مركز القرار من الجنوب التاريخي إلى الشمال الصاعد.

منذ استقلال البلاد عام 1960، كانت السلطة حكراً على قبائل الجنوب، وخصوصاً على مجموعة «الباولا» التي يتحدر منها الرئيس المؤسس فيليكس هوفويه بوانييه، وخلفاؤه: كونان بيدييه، وروبرت غي، ثم لوران غباغبو المنتمي إلى مجموعة «بيتي». هذا الاحتكار السياسي ترافق مع توزيع غير متكافئ للثروة والتعليم والبُنى التحتية، جعل الجنوب مركز النفوذ الاقتصادي والإداري، والشمال خزَّاناً بشرياً مهمشاً، يعتمد على الهجرة الداخلية والتجارة الصغيرة.

لكن العقدين الأخيرين قلبا المعادلة. فقد أثبت الشمال قدرته على التنظيم، واستثمر العامل الديموغرافي الذي يشير إلى أن المسلمين وسكان الشمال يشكِّلون اليوم ما يزيد على ستين في المائة من سكان البلاد. كما ساهمت التحولات الاقتصادية، ونمو التجارة العابرة للحدود، في تمكين نخب جديدة تمزج بين الانتماء الديني والفاعلية الاقتصادية، لتصبح مناطق الشمال اليوم ممسكة بتلابيب السلطة السياسية، وإن بقيت الثروة في يد الجنوب.

ربما تكون هذه الانتخابات نهاية لحقبة نقاش استمر عقوداً في كوت ديفوار، حول «الهوية الوطنية الإيفوارية»؛ وهو نقاش كان يكرِّس الانقسام بين الجنوب والشمال، وبين المسلمين والمسيحيين، وبين المواطنين والوافدين؛ لأنه يتمحور حول تعريف من هو المواطن الإيفواري «الأصيل» ومن هو «الوافد»، وبالتالي يفتحُ بوابات الإقصاء حسب الأمزجة السياسية للنخب.

في خطاب أنصاره، يمثل فوز واتارا تصحيحاً لمسار التاريخ؛ فهو ابن الشمال الذي أُقصي طويلاً بدعوى أصوله غير الإيفوارية، قبل أن يعود رئيساً منتصراً. أما في نظر خصومه، فالحدث يكرِّس منطق الانتقام التاريخي، ويؤكد أن البلاد لم تتخلص بعد من عقدة الانقسام التي فجَّرت الحرب الأهلية قبل عقدين. ذلك الانقسام لم يكن محض نزاع سياسي؛ بل كان تعبيراً عن صراع هوية بين شمال يرفع شعار العدالة والتمثيل، وجنوب يتوجس من فقدان الامتيازات التي راكمها عبر عقود.

الخطورة اليوم أن يصبح هذا «التحول الديموغرافي» مشروع غلبة سياسية. فالإحساس بالقوة العددية قد يدفع النخبة الحاكمة إلى ترسيخ نظام قائم على الولاء القبلي والديني، بدلاً من ترسيخ مفهوم الدولة المتوازنة. وهذا ما يجعل التحدي الأكبر أمام الرئيس واتارا في ولايته الجديدة هو تجاوز منطق النصر إلى منطق المشاركة، أي بناء عقد اجتماعي جديد يضمن للجميع مكاناً في الدولة، بصرف النظر عن العرق أو الدين أو الجهة.

ربما يكون الوقتُ مناسباً للاستجابة لطلب الحوار الذي ظلت ترفعه المعارضة منذ أشهر، ولكن يجب أن يكون حواراً حقيقياً، يقدم إجابات على الأسئلة الكبرى التي يطرحها الإيفواريون حول مستقبل بلدهم، وآليات التعايش بين مكوناته المختلفة.

على الصعيد الإقليمي، تحظى كوت ديفوار اليوم بوضع استثنائي: اقتصادها من الأكثر نمواً في غرب أفريقيا، واستقرارها الأمني يُعدُّ الأفضل مقارنة بجيرانها الغارقين في الفوضى أو الانقلابات. غير أن هذا الاستقرار لن يدوم طويلاً؛ إن لم يُترجم إلى انفتاح سياسي وحوار وطني حقيقي.

المجتمعات التي تتطور اقتصادياً من دون أن تتقدم سياسياً، تبقى مهددة بانفجارات مؤجلة، وقد أثبتت تجارب مالي وبوركينا فاسو وغينيا أن الهوية إذا دخلت ميدان السياسة تحرقه.

ما تحتاجه كوت ديفوار اليوم ليس زعيماً منتصراً؛ بل دولة جامعة؛ لأن واتارا الذي نجح في إعادة الإعمار وتحقيق النمو الاقتصادي، مدعو إلى فتح صفحة جديدة مع الجنوب، ومع المعارضة، ومع جيل الشباب الذي لم يعد يقتنع بخطاب «الشرعية التاريخية». وعليه أن يدرك أن النصر الانتخابي لا يعني نهاية الخصومة؛ بل بداية مسؤولية مضاعفة أمام وطن متعدد الأعراق والأديان والمصالح.

إن انتخابات 2025 لم تُغيِّر في الأرقام فقط؛ بل أعادت طرح السؤال القديم: هل يمكن لكوت ديفوار أن تبني دولة تتسع للشمال والجنوب معاً؟ الجواب رهن بقدرة واتارا على تجاوز الانتصار إلى المصالحة، وعلى تحويل الأغلبية الديموغرافية إلى مشروع وطني لا إلى سلطة مغلقة. فالديمقراطية في نهاية المطاف ليست انتقاماً من التاريخ؛ بل تسوية عادلة معه.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد