في الأسبوع الأخير، واجه رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر سلسلة من الانتكاسات السياسية والإعلامية، مثل تراجع حزبه في استطلاعات الرأي، وتصاعد الضغوط على وزيرة المالية ريتشل ريفز، التي تورطت في قضية مخالفة قانونية بتأجير منزلها من دون الحصول على الترخيص اللازم. وبينما يُحاول ستارمر الحفاظ على تماسك حكومته، تشير الاستطلاعات إلى اتجاه المشهد السياسي البريطاني نحو انقسام رباعي غير مسبوق، تتحمل سياساته المتقلبة وغير الواضحة معظم مسؤوليته.
وفقاً لاستطلاع حديث أجرته مؤسسة «YouGov» بتكليف من قناة «سكاي نيوز»، حصل حزب «الإصلاح» على نسبة تأييد بلغت 27 في المائة، متفوقاً على حزبي «العمال» و«المحافظين» اللذين تراجعا إلى 17 في المائة لكل منهما. في الوقت ذاته، ارتفعت نسبة تأييد حزب «الخضر» اليساري إلى 16 في المائة، متجاوزاً حزب «الديمقراطيين الأحرار» الذي استقر عند 15 في المائة. هذه الأرقام تعكس تحولاً جوهرياً في المزاج العام، لتوضح أن السياسة البريطانية لم تعد محصورة بين الحزبين الكبيرين، بل أصبحت ساحة مفتوحة لأربعة اتجاهات متباينة.
التحوُّل في التأييد الشعبي لا يرتبط فقط بالأداء الحكومي، بل يعكس أيضاً حالة من الإحباط لدى قاعدة حزب «العمال»، المتحولة يساراً، مدفوعة بخطاب حزب «الخضر»، والقلقة من إطلاق حزب اشتراكي جديد هذا الشهر، بقيادة زعيم «العمال» السابق جيريمي كوربن، والنائبة الثورية زهرة سلطانة. ويتوقع أن يستقطب الحزب الجديد شرائح معتبرة من ناخبي «العمال»، يشعرون بافتقار قيادة ستارمر إلى سياسة واضحة. في المقابل، يستقطب حزب «الإصلاح» الأصوات التي هجرت «المحافظين» بسبب سياسات الهجرة والضرائب. ومع ذلك، يواصل ستارمر وزعيم «الديمقراطيين الأحرار» السير إد ديفي هجماتهما على حزب «الإصلاح»، في استراتيجية تزيد من تآكل شعبيتهما.
لكن التحدّي الأكبر الذي يواجه ستارمر حالياً ليس الاستطلاعات فقط، بل قضية وزيرة المالية ريتشل ريفز، فالصحافة كشفت عن مخالفة تأجير منزلها مع وجود مراسلات إلكترونية بين زوجها ووكالة التأجير، تُثير تساؤلات حول احترامها قواعد السلوك الوزاري. فريتشل ريفز نفسها طالبت سابقاً بإقالة وزراء في حكومة «المحافظين» بسبب مخالفات مشابهة، ما يجعل موقفها الحالي محرجاً. ورغم أن قضية الأمير أندرو، الذي جرّده الملك من ألقابه وأخرجه من مقر إقامته الملكي شغلت الإعلام مؤقتاً، فإن قصة ريتشل ريفز لا تزال ساخنة. ففي لقاء الصحافيين البرلمانيين اليومي في داونينغ ستريت، أمس الأول، انقضوا على المتحدث باسم الحكومة («مثل كلاب الروتوايلر»، لا يتركون الضحية في وصف أحد الحضور) بأسئلة متكررة حول ريتشل ريفز، ومتى ستُقدم استقالتها، ما جعل الأجواء متوترة للغاية.
ستارمر يجد نفسه في مأزق، فإقالة وزيرة المالية ليست قراراً بسيطاً، فالتقاليد السياسية البريطانية تعدّ رئيس الوزراء ووزير المالية جناحين للإدارة نفسها. إقالتها قد تزعزع الأسواق، وتُثير قلق المستثمرين، على أعتاب إعلان الميزانية. وكان ظهور ريتشل ريفز وعيناها دامعتان في جلسة برلمانية قبل عطلة الصيف قد أثار تذبذب الأسواق المالية، وأثر سلباً على صورة الحكومة. ولم تكن حادثة معزولة، فريتشل ريفز تواجه أيضاً اتهامات بتضخيم مؤهلاتها في سيرتها الذاتية، وسرقات أدبية في كتابها «نساء صنعن الاقتصاد الحديث». أما الرسائل الإلكترونية بين زوجها ووكالة التأجير، فتكشف عن مستوى مقلق من الارتباك، وسوء الإدارة، بجانب خرق القانون.
القيادة السياسية لستارمر باتت موضع تساؤل، فأسلوبه الإداري الباهت، وافتقاره للكاريزما، وتقلباته في ملفات الهجرة غير الشرعية، والضرائب، والإسكان، جعلته يفقد ثقة شرائح واسعة من الناخبين. ففوز «العمال» في الانتخابات الأخيرة لم يكن يحمس الناخبين لبرامجهم بقدر ما كان رغبة في التخلُّص من حكومة «المحافظين». والآن، بدأت التصدعات تظهر بوضوح. الأسبوع الماضي بدأت بوادر التمرد الداخلية عندما رفض الحزب مرشحته (وزيرة المعارف بريجيت فيلبسون) لمنصب نائب زعيم الحزب، وانتخب لوسي باول، التي كان ستارمر أقالها من الوزارة، ما يعكس رفضاً ضمنياً لقيادته، وربما تمهيداً لتحرك أوسع داخل الحزب.
الانقسام الرباعي في المشهد السياسي ليس مجرد ظاهرة مؤقتة، بل يعكس بحثاً حقيقياً عن بدائل. حزب «الإصلاح» يُقدم خطاباً شعبوياً مباشراً، وحزب «الخضر» يطرح رؤى اشتراكية مثالية، و«الديمقراطيين الأحرار» يتمسكون بالوسطية، أما حزب «العمال»، بقيادة ستارمر، فيبدو غارقاً في الضباب الإداري، من دون رؤية واضحة. وفي ظل استمرار قضية ريتشل ريفز، وتراجع التأييد الشعبي، يصبح السؤال المطروح: هل يستطيع ستارمر الاستمرار؟ أم أن الحزب بحاجة إلى تغيير القيادة قبل فوات الأوان؟ الرياح السياسية تتغير، وأشرعة سفينة «العمال» تبدو في الاتجاه الخاطئ. وإذا لم يتم تعديل المسار سريعاً، فقد يجد «العمال» نفسه خارج اللعبة، محاصراً بين تيارات لا ترحمه.

