كتب الشَّيخ محسن كديور يقول: «إنَّ عقائد الغُلاة تحوَّلت بالتّدريج، في القرنين الثّالث والرَّابع (الهجريين)، إلى عقائد المذهب، لتصبح بعد قرابة عشرة قرون مِن ضروريات المذهب، وعقائده الجوهريَّة الأساسيَّة» (القراءة المنسيَّة). منها تحوير معنى «التَّقيَّة»، وهي موجودة لدى الجميع بهذا المعنى أو ذاك، تجنباً لضَّررٍ في غير محله. لكن أن يزحف الغرض إلى قلب مواقفَ رموز، في المذهب، إلى ما لا يقصدونه، فهذا مِن فعل الغلاة، وخصوصاً إذا ما جاء متأخراً مع الدَّولة الصّفويَّة، لتكون في ما بعد مِن الضَّروريات، حسب الشَّيخ كديور. نأتي بمثالين أحدهما للإمام جعفر الصَّادق (ت: 148هج)، والآخر لشخصية كبيرة في الإماميَّة، وهو الحُسين بن روح (ت: 326هج). سُئل الصَّادق عن الخليفتين الرَّاشدين الأولين، وكان جوابه في مجلس خليفة عباسيّ، فقال: «هما إمامان عادلان قاسطان، كانا على الحقّ فماتا عليه، عليهما رحمة الله» (الجزائري، الأنوار النُّعمانيَّة).
كان الجواب يتناسب مع سلوك الصّادق، مثلما نقرأ في سيرته، وما له مِن صِلة قرابة مِن ناحية أمّه بأبي بكر الصّديّق، فهي حفيدته لكن لم يترك الغلاة الصَّادق بما أجاب، فلابد أنْ يقدمه رمزاً للعداوة التي ينقلها الغلاة مِن جيلٍ إلى جيل، حتَّى يومنا هذا. فنجده يكمل الرِّواية ليؤكد بها التَّقية، على أنها الدِّين، ويواصلَ قائلاً: «فلما قام مِن المجلس تبعه بعض أصحابه، وقال: يا ابن رسول الله قد مدحت أبا بكر وعمر هذا اليوم! فقال: أنت لا تفهم معنى ما قلتُ، فقال: بينه لي؟» (الأنوار النُّعمانيَّة) فبينه له بعكس ما مدحهما.
المثال الثاني عن السفير الثّالث ابن روح، كذلك «بلغ الشَّيخ أبا القاسم رضي الله عنه أنَّ بواباً كان له على الباب الأول، قد لَّعَن معاويةَ وشتمه، فأمرَ بطردهِ وصرفهِ عن خدمته، فبقي مدة طويلة يُسأل في أمرهِ، فلا والله ما رده إلى خدمتهِ، وأخذه بعض الأهل فشغله معه. كلَّ ذلك تمويهاً للتقية» (الطّوسيّ، كتاب الغيبة).
السُّؤال: لماذا فُسرت عقلانيَّة جعفر الصَّادق والسّفير ابن روح بالتَّقية؟ وهل السَّبُّ، أو عدم الاعتراف بالخلفاء كان مِن جوهر التَّشيع منذ البداية؟ بينما كان واقعاً قد حصل، وكان الإمام عليّ بن أبي طالب وأولاده وأحفاده جزءاً منه، وهو أصبح الخليفة الرّابع بعد ثلاثة خلفاء تعامل معهم شخصياً ببيعة منه. أم أنَّ الغُلاة أرادوا تكريس ما كانوا يدعون إليه، فزعموا أنَّ كلَّ موقف عقلانيّ مغلفٌ أو مموهٌ بالتّقية، أي تقول ظاهراً وتخفي باطناً، ولا نرى في ذلك مِن أخلاق الأئمة، مثلما يُقدمهم الأدب الشّيعيّ، بكلِّ هذا الجلال والتّقديس، ويبجلهم الأدب السُّنيّ على هذا النَّحو.
لكنْ لماذا يوافق الإمام الصّادق أو ابن روح النُّوبختي على السّبّ، وعليّ بن أبي طالب يوصي جماعته، وكانوا يسبون أهل الشَّام في «صفين»: «إني أكره لكم أن تكونوا سبَّابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذَكرتم حالهم كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سَبَّكم إيَّاهم، اللّهم احْقن دِماءنا ودِماءهم، وأصلح ذات بَيننا وبَينهم» (نهج البلاغة). فقياساً بما تقدم مِن تبرير، يكون عليّ بن أبي طالب منع سَبَّاب جماعته تقيةً، أو تظاهراً؟! بينما هو حقَّاً كان يدعو إلى حقن دمائهم، وإصلاح ذات البين معهم، بينما «الغُلاة» يريدونها حرباً مدى الدَّهر!
والسَّب المتداول المتقابل، على شاشات الفضائيات، ومِن على المنابر، هو شرار لحروب وكراهيات، داخل الأوطان المختلطة. كان الاختلاف المذهبي وما زال، يشتد ويفتر، لكنَّه يتحول إلى عِراك إذا ما تقابلت الصّفوف بالسّب والتَّكذيب والتَّكفير، لذا قال محمَّد الأنصاريّ (ت: 535هج): «احفظ لسانك لا تبح بثلاثةٍ/ سنٍ ومالٍ ما استطعتَ ومذهبِ/ فعلى الثَّلاثة تبتلي بثلاثةٍ/ بممَّوه ومكفرٍ ومكذبِ» (ابن الجوزيّ، المنتظم). نعم، إنَّ التَّقيّةَ معترفٌ بها، لكن ليست للتمّويه عن سبٍّ وإهانة.
*كاتب عراقي

