المقدمات، أحياناً، لا تفضي، بالضرورة، إلى النتائج المتوقعة، قبل عامين وقعت حرب غريبة في الشرق الأوسط، انفجرت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 في قطاع غزة، تصاعدت ألسنة اللهب، اختلط كل شيء، الأديان، العقائد، الأوطان، الأفكار، اتسعت لتشمل لبنان وسوريا والعراق واليمن وإيران، طار صداها إلى أبعد من هذه الجغرافيا، فتأثر البحر الأحمر، وبحر العرب، وقناة السويس.
ولم تكن حرباً متكافئة على الإطلاق، فإسرائيل تمتلك ترسانة أسلحة فائقة الذكاء، تتلقى دعماً غير مسبوق على مختلف الأصعدة، من الولايات المتحدة، وحلف الناتو.
نتذكر أن حادث السابع من أكتوبر جعل الغرب يذهب مباشرة إلى الدفاع عن إسرائيل، التي بدت وكأنها تتعرض لهجوم شبيه «حسب وصف وسائل الإعلام الغربية»، بأحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، تلك المقارنة التي وجد فيها بنيامين نتنياهو ضالته الكبرى، لمخاطبة الرأي العام الغربي، المصاب بـ«فوبيا» الإرهاب، وذلك في مغالطة تاريخية، كثيراً ما يستخدمها بنيامين نتنياهو.
نتذكر أيضاً أن الرئيس الأميركي السابق، جو بايدن، أرسل على الفور وزير خارجيته أنتوني بلينكن، الذي قال إنه في مهمة بصفته يهودياً، ووزير خارجية الولايات المتحدة، ثم كانت زيارة الرئيس جو بايدن نفسه إلى إسرائيل، أثناء الحرب كأول رئيس أميركي، يذهب إلى مسرح عمليات حرب أثناء اندلاعها، ويشارك في حضور مجلس الحرب الإسرائيلي، ويأمر بفتح مخازن الأسلحة الاستراتيجية الأميركية، للوصول إلى إسرائيل، كرسالة إلى العالم، بأن أمن إسرائيل خط أحمر.
كانت تلك الصورة هي السائدة طوال عامين، تتعامل خلالهما واشنطن مع تل أبيب، بهذه الفلسفة والانحياز المفتوح، حتى عندما عاد الرئيس دونالد ترمب إلى البيت الأبيض للمرة الثانية، مع غروب جو بايدن، استمرت وتيرة الحرب والإبادة دون توقف، انهارت خلالها كل القوى المناوئة لإسرائيل، سواء في لبنان، أم سوريا، أم إيران، وتقريباً انتهى بنك الأهداف الإسرائيلية، واطمأنت أميركا على حليفتها، وكانت ذروة الاطمئنان في حرب الاثني عشر يوماً بين إسرائيل وإيران، التي قصفت فيها أميركا المراكز الاستراتيجية الإيرانية، وعلى رأسها المشروع النووي الإيراني.
سار الأمر بهذه الوتيرة بعض الوقت، وكان يمكن أن يستمر، فقد فتحت الأوضاع في الشرق الأوسط شهية نتنياهو ليعبر عن مكنون ما يخطط له، فقد أعلن أنه سيغير الشرق الأوسط، أو أنه غيّره بالفعل، وتمادى في تصريحاته إلى أنه سيغير العالم نفسه.
في تلك اللحظة، أدركت مراكز التفكير الغربية في واشنطن، والعواصم الأوروبية، المخاطر الكامنة والكارثية وراء تصريحات نتنياهو، لكنها لم تتحرك جدياً، إلا عندما نفّذ جزءاً من هذه الاستراتيجية المغامرة، بقصفه دولة قطر، في كسر للخطوط الحمراء العالمية، بأن منطقة الخليج جزء أساسي من السلام والاستقرار الدوليين، اقتصادياً، وسياسياً، وجغرافياً، وبالتالي أدرك الغرب أنه لا حدود أمام أطماع وطموحات نتنياهو الخطيرة، وأنه بات عبئاً على الاستراتيجية الغربية، وفطن العقل الأميركي لهذه التحديات التي تأتي من حليف موثوق، لا يراعي مصالحها العميقة.
أضيئت اللمبات الأميركية الحمراء، تصاعدت حالات غضب متزايدة، تجاه ما ترتكبه إسرائيل من جرائم إبادة في غزة، اتسعت حلقات الغضب من الجامعات الأميركية إلى الشوارع، وصولاً إلى حركة «ماغا»، التي تمثل الكتلة الحرجة لدعم الرئيس دونالد ترمب، وتسرب الغضب إلى وسائل الإعلام اليمينية الداعمة تاريخياً لإسرائيل، وبدأ التشقق الكبير، وتجلى فيما قال الناشط الأميركي القتيل، تشارلي كيرك، المقرب جداً من الرئيس ترمب، وفيما قاله تاكر كارلسون، الصحافي الشهير القريب من الرئيس الأميركي، وهنا حدث التحول الكبير لدى الرئيس ترمب نفسه، وتجرأت وسائل الإعلام الأميركية، على نقد منظمة «الأيباك»، اللوبي الداعم لإسرائيل، والمتغلغل في أوساط المؤسسات الأميركية، خصوصاً الكونغرس بغرفتيه.
هذا الغضب تجمع أمام الرئيس ترمب الداعي إلى سلام عالمي، مختلف عن السلام الذي ساد فيما بعد الحرب العالمية الثانية، ولذا وجد الرئيس الأميركي أن حرب غزة تعرقل رؤيته، ويفقد بسببها قاعدته الانتخابية، وأتباعه من حركة «ماغا»، الذين تململوا في البداية، ثم علت أصواتهم بوضوح ضد كل ما يجري في الشرق الأوسط، وتسبب فيه بنيامين نتنياهو، إلى الدرجة التي جعلتهم يتكلمون عن دولة أجنبية صغيرة، تقود سياسة الولايات المتحدة الكبيرة، ما أزعج مزاج ساكن البيت الأبيض. المستحيل يحدث بالفعل، النتائج الآن لم تأتِ بالفعل على مقاس المقدمات، تحول الرئيس الأميركي دونالد ترمب بمرونة، تناسب مزاج الشارع الأميركي، وتحقق نظريته حول السلام العالمي.
ففي حواره مع مجلة «تايم» الأميركية، لم يسبق له، أو لأي رئيس أميركي، أن كان واضحاً مع مسألة إسرائيل هكذا، فقد قال إنه أوقف الحرب على غزة، حماية لصورة إسرائيل التي تهشمت وتمزقت لدى الرأي العام العالمي، وإنه لولا تدخله في الوقت المناسب لتدخلت قوى أخرى، واتسعت الحرب، لكن الأبرز والأوضح، أنه قال مهدداً: إن ضم إسرائيل للضفة الغربية سيجعلها تفقد الدعم الكبير من أميركا، وأدان قصف قطر، مؤكداً أنه أسوأ قرار تكتيكي اتخذته إسرائيل.
هذه اللغة غير مسبوقة بين الحليفين المتداخلين، منذ اعتراف الرئيس الأميركي هاري ترومان، عام 1948، بإسرائيل، فلم يسبق أن أعلن رئيس أميركي، أن هناك انشقاقاً كبيراً في الرؤيتين، فأميركا الآن تنظر إلى مصالحها الاستراتيجية من وجهة نظر «وطنية»، و«قومية»، حتى لو كسرت الخطوط الحمراء المستحيلة.

