ما قاله الوزير الإسرائيلي لا يهمنا بقدر ما يفضح عقلية كيانه.. وما ردّده بعض الشعوبيين لا يضرنا بقدر ما يكشف مستواهم الفكري المتهافت.. أما السعودية فماضية في طريقها، تعرف من تكون، وتعرف أين تقف، وتعرف أن شرف ركوب الإبل في الصحراء أنبل من ركوب الموجة مع الأعداء..
من المثير للدهشة -وربما للشفقة- أن ترى بعض الناطقين بالعربية وقد تهللوا فرحًا بتطاول وزير إسرائيلي مغمور، لا وزن له سياسيًا ولا احترام له حتى في محيطه، حين حاول أن "يعاير" السعوديين بركوب الإبل، وكأن الإبل سُبَّة أو علامة تخلف! لم يتفاجأ السعوديون من هذا الانحطاط في الخطاب، فالكيان الذي يقوم على الاغتصاب لا يمكن أن ينتج إلا مثل هذه اللغة الدونية، لكن ما يثير العجب حقًا هو أولئك الذين يتكلمون العربية وينتمون لهذه الأرض، ثم يصفقون ببلادة لكلمات تافهة كهذه، فقط لأنهم يكرهون موقف المملكة الواضح والثابت من قضية فلسطين، أو لأنهم اعتادوا أن يقفوا في الصف المقابل لكل ما هو سعودي.
ركوب الإبل ليس عيبًا، هو فخرٌ وذاكرةٌ وهوية، الإبل التي حملت الرسالة، وسارت بها في الصحراء حتى خرج النور إلى العالم، ليست رمزًا للتأخر، بل للثبات والعزيمة والكرامة. أما أولئك الذين يظنون أن الحداثة تعني القطيعة مع الجذور، فهم في الحقيقة بلا هوية، يلهثون وراء أي صوت خارجي يهاجم وطنهم أو أمتهم، ظنًا منهم أن ذلك يمنحهم صك "التحرر الفكري".
الوزير الإسرائيلي -الذي لم يسمع به أحد قبل هذا التصريح- حاول أن يستخدم الإبل كأداة للسخرية من شعب يملك تاريخًا أعمق من عمر كيانه المصطنع كله، لكن رد السعوديين لم يكن بالصراخ، بل بالصمت الواثق: فالسعودية لا ترد على الصغار، ولا تُعير وزنًا لخطاب قائم على عقدة النقص والغيرة، فمن يملك شرعية التاريخ والمكانة الدولية والقيادة الإقليمية لا يلتفت إلى من يحاول أن يستفزه بعبارة رعناء.
غير أن ما يستحق التوقف فعلاً هو موقف بعض الشعوبيين العرب الذين وجدوا في تصريح الوزير الإسرائيلي مادة شماتة، فراحوا يتداولونه ويعلقون عليه بإعجاب خفي أو صريح، هؤلاء أنفسهم، بالمفارقة المثيرة للسخرية، يهاجمون المملكة ويزعمون -بلا دليل- أنها "مطبعّة"! أي ازدواجية فكرية هذه؟ يفرحون لأن إسرائيل "هاجمت" السعودية، وفي الوقت ذاته يتهمون السعودية بأنها مطبّعة معها! إنها حالة انفصام سياسي وأخلاقي لا مثيل لها إلا عند أولئك الذين فقدوا بوصلتهم تمامًا.
المملكة العربية السعودية كانت -وستبقى- صاحبة الموقف العربي الأوضح من القضية الفلسطينية: لا تطبيع ولا علاقات ولا اعتراف قبل قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية.. هذا موقف مبدئي لم يتزحزح رغم كل الضغوط والمغريات الدولية، ومن يعرف تاريخ الدبلوماسية السعودية يدرك أن هذا الثبات ليس شعارًا بل ممارسة، وأن الرياض لم تساوم يومًا على ثوابت الأمة.
إن من يظن أن المملكة تسعى للتطبيع مع كيان لم يعترف بعد بحق الفلسطينيين في دولتهم، لا يعرف السعودية ولا يفهم سياستها، فالمملكة -منذ الملك المؤسس وحتى اليوم- كانت تنادي بالسلام العادل، لا بالسلام المجاني، وحين يتحدث وزير إسرائيلي بهذه اللغة الرخيصة فهو في الحقيقة يعترف ضمنًا بعجز كيانه عن تحقيق أي اختراق سياسي أو أخلاقي تجاه الرياض، فيلجأ إلى السخرية والتقليل من شأن رموزنا الثقافية.
أما أولئك الشعوبيون الذين يحتفون بهذه "الإهانة"، فهم لا يدركون أنهم في الواقع يصفقون للإهانة الموجهة لهم أنفسهم. فالإبل التي يسخرون منها هي جزء من التاريخ العربي كله، من تراث الصحراء الذي شكل هوية هذه الأمة، وليست حكرًا على السعودية.. ومن يحتقر رموز أصالته، إنما يحتقر نفسه أولاً.
الحداثة لا تعني أن نتنكر لجذورنا، والسعودية التي تسير بخطى ثابتة نحو المستقبل لا تخجل من تاريخها، بل تفخر أنها جمعت بين الأصالة والمعاصرة، بين ركوب الإبل وصناعة الصواريخ، بين خيام البادية ومراكز الأبحاث، بين تاريخ مشرف ومستقبل واعد.. هذه المعادلة لا يفهمها من يعيش عقدة النقص، ولا من يرى التقدم في الانسلاخ عن الهوية.
في النهاية؛ ما قاله الوزير الإسرائيلي لا يهمنا بقدر ما يفضح عقلية كيانه، وما ردده بعض الشعوبيين لا يضرنا بقدر ما يكشف مستواهم الفكري المتهافت.. أما السعودية فماضية في طريقها، تعرف من تكون، وتعرف أين تقف، وتعرف أن شرف ركوب الإبل في الصحراء أنبل من ركوب الموجة مع الأعداء.
نعم، نحن نركب الإبل، ونفخر بذلك.. لأننا نركبها بثقة الشعوب التي تصنع مستقبلها بيدها، لا بثقافة من يعيش على فتات الآخرين.. فليقل الوزير الإسرائيلي ما يشاء، ولينتشِ الشعوبيون بفرحتهم النشاز؛ أما السعودية فتبقى كبيرة، بتاريخها، بمواقفها، وبصمتها التي تعلو على ضجيجهم جميعًا.

