مُتشحةً بشالٍ أحمر يغطي شعر رأسها، وينزل عبر كتفيها فيعلو ثوبها الأسود الطويل، الذي يكسو جسدها النحيف، من قدميها إلى عنقها، وقفت نوارة أمام كومة المتبقي من عفش دارٍ كانت تعيش مستورة الحال فيها، قبل أن تحيلها طائرات بنيامين نتنياهو كومَ حجارة. بدا من الواضح لمن يتأمل بعمق في صورة الشابة الغزاوية أن الدمع قد جف في عينيها، فيما بدت نظراتها حائرة، تحاول اكتشاف آفاق غيب مجهول، كأنها تفتش عن جواب لسؤال يدق كما هدير رعدٍ بين عروق دماغها؛ إلى أين المفر، وما الآتي بعد كل هذا؟ تلك واحدة من مئات آلاف صور همجية الحرب على شعب قطاع غزة، التي لم تزل مستمرة حتى الآن.
ولئن كانت الصورة واحدة من مئات آلافٍ مثلها، فإن نوارة أيضاً هي واحدة من شابات غزة الناجيات، حتى لحظة التقاط صورتها تلك، من الموت قتلاً بين أنقاض دارها، كما حصل لعشرات آلاف ضحايا حرب تدمير القطاع، وإحالته إلى أرض خراب. تُرى، أكان ضرورياً لكل هذه المآسي أن تقع، وأن يدفع الغزيون هذا الثمن الفظيع؟ بلا تردد، سوف يجيب البعض باختصار شديد أنْ نعم، ويحيل الأمر كله إلى منهج ضرورة مقاومة الاحتلال، كافياً نفسه عناء تحليل النتائج، خصوصاً السلبي منها.
بعض آخر سيجيب بنعم كذلك، لكنه يضع عنصر المقاومة، جانباً، ويكتفي بما مضمونه أنِ انظر إلى ما تحقق من مكاسب لقضية فلسطين على صعيد العالم كله. ثمة طرف ثالث قد يغامر، فيعترض من منطلق أنه غير متفق مع البعض الأول بشأن إقحام منطق المقاومة في تبرير أخطاء قرارات يتخذها قادة فصائل وحركات لكل منهم تحالفات واضحة مع أنظمة حكم لها مصالح تخصها، ولا يوافق البعض الثاني في تجيير ما يوصف بمكاسب سياسية للهجوم المُسمى «طوفان الأقصى». أغلب المنتمين للطرف الثالث، وأعدُّ نفسي منهم، الأرجح أن يكونوا ممن عايشوا ويلات ما انتهت إليه كوارث سوء إدارة عدد من القضايا العربية، وفي مقدمها قضية الصراع العربي - الإسرائيلي.
سوء الإدارة هذا هو الذي تسبب في الزج بفلسطين، القضية والشعب، في حرائق الخلافات العربية، حتى صارت أشبه بدُمية يُتلاعب بها، أو كرة يتقاذفها اللاعبون في ساحات كل صراع بين نظام عربي وآخر. وبفعل ذلك النهج، انتهى الأمر بقضية فلسطين إلى انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في الثلاثين من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1991، قبل أربعة وثلاثين عاماً من نهار غد، وكان يوم أربعاء أيضاً. ما ترتب على ذلك المؤتمر من نتائج، رغم كل الذي قيل عنها، كان ممكناً أن يحقق إيجابيات عدة للشعب الفلسطيني، لو أن القيادات الفلسطينية أحسنت التعامل معها، والبناء عليها. لكن هيهات. فأنى لزعامات الفصائل والتنظيمات الفلسطينية أن تتفق على منهج موحد في التعامل إيجابياً مع العالم بشأن قضية شعبها، إذا كانت هي عاجزة عن الاتفاق فيما بينها، فتسهم في بقاء فلسطين دُمية بأيدي المتلاعبين بها. ذلك واقع قائم منذ نكبة 1948، وليس واضحاً إلى متى سيظل قائماً.

