: آخر تحديث

حكمت المحكمة

1
1
1

ليلى أمين السيف

من طبائع البشر الغريبة أن تُطلق أحكامًا سريعة على الآخرين، أسرع من رمشة عين، وأقصر من أن تُمنح لنا فرصة لمعرفة حقيقتهم. نرى موقفًا عابرًا أو ابتسامة عابرة، فينطبع في ذهننا حكمٌ نهائي، بينما قد تخفي الحياة وراء تلك اللحظة الكثير من الأسرار والحقائق.

نرى إنسانًا في موقف واحد، فنكتب قصته كلها في خيالنا، ونُوزّع عليه الصفات بلا رحمة. ترى أحدهم يتثاءب في اجتماع، فتقول فورًا: «كسول، ما عنده طموح!» بينما قد يكون قد أمضى الليل يُهدهد طفله الذي يظن أن الليل مسرح لغنائه وبكائه.

ترى جارتك تخرج يوميًا بأناقة كاملة، فتحكم: «مدللة، عابثة.» بينما هي قد تكون تنظف مكاتب الناس طوال الليل لتكسب قوت يومها.

تجد شابًا يضحك بصوت مرتفع في مقهى، فتقرر: «مستهتر لا يعرف الأدب.» بينما هو ربما يحتفل بخبر قبوله في الجامعة.

حتى الرجل النائم في الحافلة نصفه بالكسل، مع أنه أنهى نوبة عمل طويلة ليؤمّن إيجار البيت.

ثم تأتي وسائل التواصل لتزيد الطين بلّة!

صورة مع قهوة؟ «مثقف حساس».

هدية على السناب استلفتها فتاة من صديقتها؟ تتحول بقدرة «الانطباع الأول» إلى قصة حب أسطورية!

صورة مع همبرغر؟ «سطحي يحب الأكل».

يا جماعة.. ربما عطشان أو جائع فقط، وربما هو فعلًا سطحي، بس وش دخلنا؟

إن أخطر ما يزلّ به الفكر الإنساني ليس الجهل وحده، بل ذلك «الحُكم المسبق» الذي يلبس ثوب اليقين وهو في حقيقته وهمٌ محض.

إنه انقياد عاطفي معتم، يحجب عن العقل صفاء الرؤية، ويقود صاحبه إلى إطلاق الأحكام من وراء حجابٍ كثيف من الضباب، فلا نور فيه يهدي، ولا بصيرة تُنصف.

الحكم على الناس من مشهد عابر يشبه أن تحكم على كتاب من عنوانه فقط، أو على البحر من موجه الأول.

إنه قتل بطيء للعلاقات، وتبديد للثقة، وخسارة لقلوب ربما كانت أوفى مما نتخيل.

الحكم المسبق هو أن ترى الناس بعيون جراحك، لا بعيون حقيقتهم.

هو مرآة مشروخة، تعكس ماضيك على حاضر الآخرين، فلا تراهم كما هم، بل كما انكسرت أنت. وكم من قلب طيب وُصف بالقسوة، وكم من عقل حكيم رُمي بالسطحية، وكم من روح نقية حُكم عليها من زاوية واحدة لا تُبصر.

فلا تصدّق أول فكرة تأتيك.

لا تحكم من زاوية واحدة.

لا تقتل العلاقات بأحكامك المتعجلة.

الحياة أوسع من عدساتنا الضيقة، والناس لا يختصرون في صورة، ولا في شائعة، ولا في كلمة خرجت في ساعة غضب.

أمهِل قبل أن تحكم، وراجع نفسك قبل أن تُعيب غيرك.

فربما من ظننته عبئًا، كان هو السند.

والذي أزعجك صوته العالي قد يكون أول من يواسيك.

والذي حسبته «قاسيًا» قد يملك أحنّ قلب.

ومن ظننته خصمًا، قد يكون اليد التي تلتقطك يوم سقوطك.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]

فلتكن أحكامنا أبطأ قليلًا.. لكن أصدق كثيرًا. ولتكن قلوبنا أوسع قليلًا.. لكن أرحم كثيرًا.

فالحياة أقصر من أن نضيعها في محاكمات وهمية، وأغلى من أن نحرقها بأحكام مسبقة، وأجمل من أن نحرم أنفسنا فيها من نور الناس لأننا عشنا في ظلال ظنوننا

ومن أخطر الآفات أن نحاكم الناس بماضيهم؛ فالناس يتعلمون ويتغيرون ويصلحون، والأفكار تتبدل يومًا بعد يوم حتى نحن تتغير افكارنا مع تجاربنا. فلا يمكننا أن نحاكم حاضرهم بعدسة الأمس،ففي ذلك ظلم بين فنحن نظلمهم ونُضيّع علينا فرصة اكتشافهم من جديد.

وبصدد الحكم على الناس، لا يصح أن نكتفي بسطح الصورة، أو نُخدع ببريق المظهر وحده. فليس كل أنيق نقي، ولا كل فصيح صادق. هناك من يحسن اختيار كلماته، ويُتقن تنسيق مظهره، لكن داخله يعاني من ظلمة لا تراها العيون. وفي المقابل، قد تجد في بساطة الهيئة وصمت الحديث قلوبًا بيضاء، ونفوسًا زكية، لا يظهر جمالها إلا في المواقف لا في الأقوال. فالحُكم العادل لا يُبنى على اللباس أو اللهجة، بل على معدن الإنسان حين يُختبر.

«هل شققتَ عن قلبه؟»: تذكّر قول النبي صلى الله عليه وسلم، قول يجب أن يُكتب بماء الإنصاف على أبواب عقولنا، كلما هممنا بإصدار حكم من موقف عابر، أو نظرة خاطفة.

رفقًا بالأرواح.. ولنتوقف عن الحكم السريع، ولنتحرر من قيود الانطباعات الأولى. فالناس أعمق وأوسع من كلمة، وأبعد من لحظة. لا تقيسوا الناس بظاهر كلمة ولا شكل ثوب، فكم من زهرةٍ سامّة، وكم من حجرٍ يخفي ماءً عذبًا.

دع قلبك يرى ما وراء المظاهر، ودع عقلك يراقب الأفعال قبل الأقوال والمواقف تحكم فالعدل في النظر للآخرين ليس رفاهية، بل فضيلة تحفظك من الظلم وتحفظهم من الجرح.

وفي النهاية، من عرف جوهر الناس وعاش معهم بصبر وتأنٍ، عرف معنى الإنسانية بحق.

** **

- كاتبة يمنية مقيمة في السويد


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد