محمد حميدة
يشهد العالم تحوّلاً كبيراً في موازين القوى، في وقت أصبح فيه تعدد القطبية واقعاً ملموساً رغم عدم اكتمال أدواته المتمثلة في إصلاح المؤسسات الدولية التي رسّخت «أحادية القطبية» على مدار عقود.
يثير المشهد الذي تعيشه المنطقة منذ أكثر من عقدين تساؤلات حول المستقبل في ظل صراع تجلى بين الشرق والغرب، ويبرز بشكل أكبر بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، إذ لم يعد الصراع محصوراً في بحر الصين الجنوبي أو العقوبات التجارية، بل تحوّل من المستوى الأمني والعسكري الذي تمثله «الرؤية الأمريكية، إلى صراع متعدد الأبعاد بما يشمله من بنى تحتية واقتصاد وتكنولوجيا متقدمة» الرؤية الصينية.
ربما نلحظ التحرك الأمريكي الأخير الذي يقوده الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، تحت «أجنحة السلام»، حول العالم، لكنها في الحقيقة بمثابة محاولة لكبح الصعود الصيني مع دول المنطقة من جهة، والحفاظ على أحادية القطبية والعلاقات التاريخية مع دول المنطقة من جهة؛ لذلك وجدت مراكز صنع القرار في الداخل الأمريكي في القضية الفلسطينية أحد المحاور المهمة في استعادة أو الحفاظ على علاقتها مع الدول العربية والمنطقة، وهو ما يفسر تغيّر الموقف الأمريكي من أزمة قطاع غزة على وجه التحديد.
تاريخياً اعتمدت الولايات المتحدة على «الاستراتيجية الأمنية» وضمنها محاربة الإرهاب، ومحاولة احتواء النفوذ الخارجي في المنطقة، لكن هذا الأمر لم يمثل الأهمية نفسها كما في السنوات الماضية بعد التقارب الإيراني العربي، والدور الذي لعبته بكين في اتفاق الرياض وطهران.
في المقابل تقدم الصين نفسها شريكاً شاملاً تعتمد «البراغماتية الاقتصادية»، مع حفاظها على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، لتقابل نقاط الضعف في العلاقة مع واشنطن والغرب بنقاط قوة، قفزت بالعلاقات إلى مستويات لم تكن متوقعة قبل سنوات، خاصة أن تراجع اعتماد واشنطن على النفط العربي، يقابله الاعتماد الصيني بنسبة 53% من واردات النفط على منطقة الشرق الأوسط، فضلاً عن مبادرة «الحزام والطريق» التي تعد المنطقة العربية هي أهم حلقاتها.
يتجلى التحوّل في العلاقات من خلال الأرقام إذ تحتل الصين الصدارة بعد أن تجاوز حجم التبادل التجاري بين بكين والعواصم العربية 400 مليار دولار أمريكي في عام 2024، في حين أن حجم التبادل التجاري بين الولايات المتحدة والدول العربية كان أقل، بما يُقدر بنحو 141.7 مليار دولار أمريكي في عام 2024، الأمر الذي يوضح بصورة جلية مستقبل العلاقات الاقتصادية.
بالنظر لشبكة الحلفاء اعتمدت واشنطن على تحالفات أمنية عميقة، حيث تمنح بعض الدول صفة «حليف رئيسي خارج الناتو»، لتعزيز التعاون العسكري والاستخباري، ومنها السعودية والإمارات وقطر والبحرين، فيما ترتبط بعلاقات أمنية ومساعدات عسكرية مع مصر والأردن والمغرب. أما إسرائيل فهي الشريك الاستراتيجي الأهم للولايات المتحدة في المنطقة.
في المقابل انفتحت الصين على علاقات كبيرة مع كل الحلفاء لواشنطن، بل استطاعت تجاوز الجانب الأمريكي على المستوى الاقتصادي، في مسعى لتجاوزه أمنياً من خلال استراتيجية التنمية بدلاً من النزاعات والحروب، وهي عملية ليست هيّنة إذ تحتاج لقرارات وخطوات صعبة من دول الشرق الأوسط.
بعض العوامل تسهم في تحديد مستوى العلاقات عادة بين الدول والقوى العظمى، وهنا تعززها احتياجات وتطلعات الدول العربية ومصالحها الوطنية، التي باتت مرتبطة بشكل أكبر بالتنمية والاستثمارات، الأمر الذي يرجّح كفة الصين، في حين أن معادلة الأمن لا تزال تشكّل معضلة، إلا إذا قررت الصين الدخول إلى جانب روسيا لتحقيق التوازن الأمني في المنطقة، وعندها ترسّخ عملية تعدد القطبية على مستويات عدة، مع رسم العلاقات الذي يقوم على مراعاة مصالح كل الأطراف دون التبعية لأحد.
رغم ذلك فإنه من المؤكد أن الجانب الأمريكي سيستمر في ممارسة الضغوط على حلفائه لتقييد التعاون التكنولوجي مع الصين، بالإضافة للضغوط التي ستمارس لمنع شراء الأسلحة الصينية التي ستنضم للأسلحة الروسية في منافسة الغرب، كل هذا مرتبط باستمرار مسار التنافس دون التصعيد العسكري المباشر، الذي يمكن أن يضع الدول العربية في موقف اتخاذ قرارات صعبة في القضايا الحسّاسة مثل التكنولوجيا العسكرية وشبكات الاتصالات، التي بات من الضروري الاستعداد لها من الآن، بل بات الأمر يتطلب أن تكون الدول العربية رقماً في المعادلة العالمية بذاتها إلى جانب القوى العالمية التي يسعى كل منها للهيمنة بشكل أو بآخر.

