محمد خالد الأزعر
سيقال ذات حين قادم من الدهر، إنه مثلما كانت مداخلات الأوروبيين وسياساتهم الفلسطينية السلبية فارقة في حجب حقوق الشعب الفلسطيني عامة، خلال نحو مئة عام من الصراع الدامي على أرض فلسطين، فقد كان ميل هذه المداخلات والسياسات بين يدي الدورة الثمانين للأمم المتحدة نحو الاتجاه المعاكس، ومحاولة التزامها سبل الموضوعية والاعتدال واعترافها بفلسطين الدولة، فارقة أيضاً وبشدة في الإقرار بهذه الحقوق، وإعادة تقعيدها على سكة السلامة في المشهدين الإقليمي والدولي.
إنكار الأوروبيين يوم كانوا على قمة هرم النظام الدولي، وفي مقام التحكم والسيطرة شرق أوسطياً، لكينونة فلسطين والفلسطينيين، كان فعلاً مؤسساً لعملية تغييبهما، وتقعيد الكينونة الإسرائيلية في مقامهما على كل الصعد.
وفضلاً عما يحدثه المنظور الأوروبي الجديد من إعادة قراءة شاملة وجذرية لمسار الصراع، فإنه جاء في لحظة شديدة الحساسية بالنسبة لهذا المسار. إنها اللحظة التي ظنت فيها إسرائيل أنها قاب قوسين أو أدنى من طمر الحقائق الفلسطينية تماماً من ناحية، وعلى وشك تحقيق العلو الكبير في محيطها الإقليمي من ناحية أخرى.
على سبيل الاستطراد المؤكد لهذه الانعطافة الموجبة لغضب الجانب الإسرائيلي، لنا أن نلحظ إشارة بوريس جونسون، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق: «تطبيق تصريح بلفور كان ناقصاً، كونه أهمل النص الخاص بحقوق الجماعات غير اليهودية في فلسطين». هذا اعتراف تأخر كثيراً، بالغبن الذي ألحقته بلاده بالشعب الفلسطيني، ومن بين ما يعنينا منه، الاحتواء على محاولة تصحيح بعض الأسس القانونية والسياسية لجذور الصراع، التي حسب الإسرائيليون أنها تقادمت، وانعدمت من الذاكرة الدولية. وعطفاً على ذلك، لا يوجد ما يحول دون الاعتقاد بديمومة انفراط السردية الاسرائيلية، وبالتداعي، ردف «الرواية الفلسطينية» بزاد تاريخي حقوقي سياسي قوي، تدعمه شهادات أكثر القوى الأوروبية انغماساً في تقويض لبناتها الأولى ذات مرحلة.
رُب مجادلٍ بأن أوروبا، التي تعترف بفلسطين اليوم بعد طول إنكار ومراوغة وانحياز مؤذٍ، ليست هي أوروبا الأمس، لجهات المكانة الدولية بصفة عامة، أوالقدرة على التأثير والتحكم في مسار القضية الفلسطينية خصوصاً. مثل هذا التصور يحظى لدى البعض بالصدقية، لا سيما في ضوء انتقال مركز الفعل المؤثر على كل الصعد إلى الضفة الأمريكية من الأطلسي، بيد أن المقاربة الأكثر عمقاً لأدوار الفواعل الدوليين في القضايا العالمية الساخنة، تجعلنا نميل إلى عدم تجريد الأوروبيين بالكلية من النفوذ والتأثير في حال ومآل الصراع «الإسرائيلي - الفلسطيني»، بحيث يبدو من السذاجة التحليلية إدراج الاعترافات الأوروبية، حدثاً عادياً لن يقدم أو يؤخر، ضمن قائمة الذين اعترفوا بفلسطين من قبل!
هناك الكثير ما يستدعي مقاربة المعالجة الأوروبية الجديدة، بشيء من الاعتبار والأهمية بحيثية استثنائية، فتاريخياً، مثلاً، يدور الحديث عن مجموعة دولية، تحوي أرشيفاتها الشق الأعظم من تفصيلات نشأة الصراع ومنعرجاته الحاسمة، وذلك أكثر بكثير من الدراية والمعلومات الأمريكية ذات الصلة، وحالياً ربما كان من الصحيح أن التحولات والمستجدات الدولية أفضت إلى تراجع أدوار هذه المجموعة تجاه الصراع، إلى مراكز خلفية على المستويين السياسي والاستراتيجي العسكري بالذات، قياساً بالحضور الأمريكي الطاغي، لكن هذا التراجع لا ينطبق في تقديرنا على كل أدوات التأثير والضغط على الجانب الإسرائيلي، التي يبدو بعضها بالغ الدلالة والقوة، إذا ما توفرت الرغبة، وفي طليعتها العلاقات الاقتصادية.
تقول أرقام عام 2024 إن الاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الأكبر لإسرائيل، بحجم واردات وصادرات سلعية بلغ 42.6 مليار دولار، ما يعادل 32% من تعاملات إسرائيل التجارية عالمياً. وبالمناسبة لم يزد هذا الحجم بين إسرائيل وظهيرها السياسي والاستراتيجي الأكبر، الولايات المتحدة، عن 37 مليار دولار!
لا يمكن بحال عزل حجم التشبيك الاقتصادي عن عوامل التأثير الحاسمة، في توجهات الدول وسياساتها الداخلية والخارجية، ونحسب أن الحالة الأوروبية الاسرائيلية ليست بدعاً من هذه القناعة، وظاهر الحال وباطنه يؤكدان أن جزءاً كبيراً من رقبة الاقتصاد الإسرائيلي وحيويته معلق بيد الأوروبيين.
هذه الحقيقة تقع على رأس الهواجس الإسرائيلية المقبضة من تداعيات خطوة الاعتراف الأوروبية، إذ ليس بعد هذه الخطوة سوى السعي إلى فرض عقوبات، قد يكون مؤداها كشف عورة الاقتصاد الإسرائيلي بقوة، على غرار ما حصل، مثلاً، مع نظام جنوب أفريقيا العنصري، بما أدى لانهياره قبل ثلاثين عاماً، وهو ما ينبغي تشجيع الأوروبيين على إتيانه، حتى تتوفر لخطوتهم الفاعلية المرجوة، ولا تتحول بمضي الوقت إلى قفزة في الهواء.د.محمد خالد الأزعر