: آخر تحديث

رسالة إلى أمين عام منظمة أوبك: معالي هيثم الغيص

2
1
2

أهنئك أيها الأخ الكريم على مرور خمسة وستين عاماً على قيام منظمة أوبك، وأُثنِي على ما تشهده من حراكٍ غير مسبوق في عهدك الميمون.

تربطني بهذه المنظمة العتيدة علاقة عاطفية ومهنية طيلة أربعين عاماً قضيتها في وزارة البترول والثروة المعدنية في مدينة الرياض، فقد التحقت بالوزارة في عام 1962 وهي تستقبل وزيراً وتودع وزيراً، أحدهما ساهم في إنشاء المنظمة بل كان له قصب السبق في ذلك، والآخر اتخذها منصةً لترسيخ دور المملكة القيادي في المنظمة وفي الساحة البترولية.

سبب آخر أكثر أهمية عاطفية، فكما تعلم أيها الأخ الكريم أن هذه المنظمة لم تولد في إحدى عيادات البيت الأبيض أو قصر الكرملين، وإنما قامت متكئةً على كواهل أبنائها الخمسة الذين اجتمعوا في بغداد، أحدهم لمّا ينل استقلاله بعد، بل إنني أكاد أجزم أن قيام أوبك وما تضمنته أهدافها النبيلة جزءاً من حركات الوعي السياسي الذي اتسمت به كلٌ من حقبة الخمسينيات والستينيات الميلادية من القرن الماضي.

وسبب ثالث يفوق كل ما سبق هو أن إشارة البدء لهذه المنظمة جاءت من بلادي المملكة العربية السعودية عندما صادق الملك الراحل سعود بن عبدالعزيز في مرسومه الملكي رقم 51 الصادر في 11 رجب 1380 هجرية، الموافق 29 ديسمبر 1960، على أول قرارين صدرا من المؤتَمِرِين في بغداد أحدهما يقضي بإنشاء المنظمة.

أما علاقتي المهنية بالمنظمة فهي تتمثل في مشاركاتي بأعمال ولجان المنظمة المتعددة، لكن أهمها عندما عينت ممثلاً لبلادي في مجلس محافظي المنظمة لمدة أربعة عشر عاماً (2003 - 1990).

ترأست دورة المجلس مرتين؛ الأولى في أول سنة لدخولي المجلس بعد غزو العراق للكويت، كانت تلك الجلسة أكثر الجلسات سخونة في تاريخ المنظمة عندما جاء مندوب العراق بكل أسف ليطعن في شرعية وجود ممثلة الكويت في الجلسة. ولا شك أن معاليكم اطلع على محضر تلك الجلسة وكيف تصرفت كرئيس. كانت تلك هي القضية الأولى التي واجهتني في المجلس.

أما الجلسة الثانية التي أدرتها فكانت في عام 2002 في أوساكا باليابان، وقد تزامنت مع إنشاء منتدى الطاقة العالمي الذي كلفني معالي الوزير علي النعيمي برئاسة آخر لجنة تحضيرية (الرياض فندق الفيصلية) قبل التوجه إلى أوساكا.

أما القضية الثانية التي واجهتني في المجلس فهي تعالج أحد الموضوعات الذي تضمنه العدد الخاص من مجلة أوبك الذي صدر بمناسبة مرور 65 عاماً على قيام المنظمة، وقد بعثتم لي مشكوراً نسخة منه.

الموضوع هو مبنى المنظمة منذ أن انتقلت من جنيف، ولفائدة القارئ فإن المنظمة عندما أُنشأت اتخذت من مدينة جنيف مقراً واستمرت هناك الى عام 1965 عندما دبّ خلاف بين المنظمة وحكومة جنيف التي تستضيف عدداً من المنظمات الدولية حول الحصانات التي تتمتع بها تلك المنظمات وعدم منحها كاملة لمنظمة أوبك، الأمر الذي حدا بها إلى البحث عن مقر جديد ويقول بعض الدبلوماسيين النمساويين الذين تحدثت معهم حول هذا الموضوع إن برونو كرايسكي، وزير الخارجية آنذاك والمستشار فيما بعد، سمع بذلك فهرع إلى جنيف وعرض على المنظمة الانتقال إلى فيينا، مَهْد العديد من المنظمات الدولية كما هو معروف، لكن العرض لم يتضمن مساواة المنظمة بغيرها من المنظمات الدولية المقيمة في فيينا، وعلى وجه الخصوص الإيجار الرمزي.

وعندما استقرت أوبك في فيينا لم يكن هاجس الأمن عنصراً أساسياً كما هو الآن ولذلك كانت أوبك تتقاسم المقر مع غيرها من الشركات أو الأفراد إلى أن حدثت عملية كارلوس الإرهابية (1975) التي راح ضحيتها اثنان من الحراس وعضو الوفد الليبي، فانتقلت إلى مبنى خاص بها وأصبح هذا شرطاً لا يقبل المساومة.

لقد لاحظت من قراءة ما تضمنه العدد الخاص من المجلة التغطية التاريخية الوافية والشيقة لمختلف البنايات التي تعاقبت عليها المنظمة إلى أن وصلنا إلى المبنى الجديد الراهن حيث يبدو لي أنه جاء منقوصاً ولا ذنب لمن أعد التقرير في ذلك لأن حصول أوبك على مقرها الجديد لم يأت من قرار مصدره المجلس الوزاري أو مجلس المحافظين في المنظمة، بل جاء من خارج فيينا وعلى وجه التحديد من الرياض. كيف؟

استغرق البحث عن حل لمقر المنظمة يساوي بينها وبين المنظمات المقيمة الأخرى طيلة النصف الأول من عقد التسعينيات من القرن الماضي، وشاركت في مداولات هذا الموضوع بصفتي ممثلاً للمملكة العربية السعودية.

أثار ممثل إيران كازمبور اردبيلي الموضوع بحجة ضغط المصروفات وتبعته لهذا السبب ممثلة الكويت ثم ممثل قطر وبقية المحافظين.

صار المطلب إما أن تمنحنا حكومة النمسا مقراً مثلنا مثل بقية المنظمات وإلا فلنبحث عن مقر جديد خارج النمسا.

اعترضت على هذا المطلب بهذه اللغة وإن كنت متفقاً على الجزء الأول منه وهو معاملة أوبك كغيرها من المنظمات.

بدأ الحديث عن رغبة أوبك في البحث عن مقر خارج النمسا يتسرب فسارعت ألمانيا بعرض مقر البرلمان في بون بعد انتقال العاصمة إلى برلين، كما تلقت عرضاً آخر من حكومة جنيف! وتلقت أوبك عرضاً مغرياً من دولة قطر وعلمنا فيما بعد أن الأشقاء في قطر استضافوا الأمين العام المساعد وأخذوه في جولة اطلع من خلالها على الأماكن المتاحة للمنظمة مع بعض الامتيازات. عدت إلى الرياض وأوجزت لمعالي الوزير (المرحوم هشام ناظر) ما دار في الجلسة وذكرت له أن الاجتماع القادم للمجلس سيكون حاسماً ما لم يأت الاختراق من حكومة النمسا.

في اليوم التالي استدعاني معاليه، وبطريقته العفوية المألوفة لمن يعرفه، رمى أمامي ورقة هي برقية من المقام السامي كما نقول في المملكة والمقصود هو الملك فهد طيب الله ثراه، حاولت أن أخذ البرقية لنسخها خارج مكتبه فرفض، وفهمت ما هو المقصود.

في الدورة الثالثة والثمانين لمجلس المحافظين في شهر أكتوبر 1993 جاء زميلي في المجلس ممثل الشقيقة قطر ببيان مكتوب قراه مع بدء مناقشة البند تضمن عرضاً سخياً لاستضافة المنظمة وكأنّ باب المفاوضات مع السلطات النمساوية قد أقفل.

وعندما جاء دوري بالكلام شكرت بكل الصدق والأمانة الأشقاء في قطر على عرضهم السخي والذي يؤكد ما تحظى به هذه المنظمة لديهم من أهمية وقيمة على المستوى الدولي، غير أن سياسة حكومتي منذ تأسيس أوبك هي ألا تتخذ المنظمة مقراً لها في دولة عضو مهما كان، وقد أيدني في ذلك ممثل دولة الإمارات في المجلس.

أعاد موقف المملكة كما شرحتُه المداولات إلى المربع الأول وانتهى الاجتماع على أن يُستأنف النقاش في الاجتماع القادم.

عدت إلى الرياض وعرضت الأمر على معالي الوزير واتفقنا على الاتصال بالحكومة النمساوية، وعمدني معاليه بالاتصال بالسفير النمساوي في الرياض. ذهبت لمقابلة السفير في مقر السفارة في حي السليمانية قبل أن تنتقل للحي الدبلوماسي. السفير هو ماريوس كاليجاري Marius Calligaries وهو حي يرزق حدثته عن سبب الزيارة فقال إنه مسافر إلى فيينا لقضاء عطلة رأس السنة الميلادية فاتفقنا أن نلتقي في مكتبي في وزارة البترول بعد عودته، وفي الرابع من يناير 1994 التقينا ودار بيننا حديث نقلت للسفير ما دار في مجلس المحافظين وموقف المملكة، وقلت له بدون مواربة وفي حدود ما سمعته من معالي الوزير أن المملكة هي الدولة الوحيدة التي تعترض على خروج أوبك من فيينا وعليكم أن تتخذوا موقفاً عادلاً يساوي أوبك مع غيرها من المنظمات.

وبعد أسبوعين من هذه المقابلة هاتفني من فيينا السيد رمزي سلمان الأمين العام المساعد ليخبرني أنه تلقى للتو مكالمة من وزارة الخارجية مفادها أن السلطات النمساوية وافقت على طلب المنظمة.

وكما ترى يا معالي الأخ العزيز أن الفضل في قرار السلطات النمساوية يعود لصاحب القرارات المصيرية الملك فهد بن عبدالعزيز، طيب الله ثراه.

لقد شرفني معالي الأخ عبدالله البدري الأمين العام الأسبق بدعوتي للحفل الرسمي لتدشين المبنى الجديد الحالي في 17 مارس 2010 ونوه عن حضوري بصفتي مدير عام المنظمة الشقيقة «صندوق أوبك OFID» وعندما تشرفت بالحصول على وسام الدولة من الرئيس هانز فيشر، عدّدَ أربعة أسباب جعلتني استحق الوسام أحدها الدور الذي قمت به في المفاوضات التي انتهت بقبول مطلب أوبك، وعندما منحتني مدينة فيينا وساماً آخر، حضر الحفل السفير كاليجاري وثنّى على ما ذكرته عن الدور الذي قمنا به لتحقيق مطلب الملك الراحل فهد بن عبدالعزيز، طيب الله ثراه.

أكرر شكري لمعاليك على تزويدي بنسخة العدد الخاص من مجلة المنظمة وما حوته حول هذا البند من سردٍ كان لي شرف المساهمة فيه، إلا أنني وبقدر ما أنا متأكد من صحة ودقة الوقائع التي وردت في المقال إلا أنني أطمع بالعودة إلى محاضر جلسات مجلس المحافظين لتمحيص أرقام وتواريخ الجلسات وذلك بهدف توثيق هذا الجانب المهم من تاريخ العلاقة بين الدولة المضيفة والدول الأعضاء في المنظمة.

وفقك الله.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد