: آخر تحديث

نصيحة جدتي

0
0
0

يبحث الصحافي عن مواضيعَ للكتابة في كلّ مكان. ويعثر عليها في كلّ مكان. لكن عليك دائماً الهمّة والمهمة. فهي غالباً لا تأتي إلى أحد، ولا تتساقط من أغصان شجرة تستلقي تحتها. عرفنا في لبنانَ في القدم جماعة من الرحّل يسمّون النوَّر، أو الغجر. كانوا يتنقّلون من مكان إلى مكان، يضربون خيامَهم حول الدساكر أو القرى، يغنون ويعزفون الربابات ويرقصون ويصادقون أهل الجوار المؤنث، لكن يرفضون التزاوج من خارج العرق. ويرفضون تسجيل ولاداتهم في أي مكان. سمّوهم في سوريا «أهل طبل وزمر»، ولهم جالية كبيرة في الأردن.

كان النَّوَر مثارَ حكايات كثيرة بسبب نهجهم في الحياة. وفي أوروبا كانوا جزءاً من الحياة الفنية والشاعرية. وأيام كنَّا لا نزال نمارس الانتحار بالتدخين، كان في فرنسا سيجارة «جيتان» بعلبتها الزرقاء وتبغها الأسود. وكانت هذه سيجارة الشعراء والفنانين والبوهميين ومساطيل مقلديهم.

كان أكبر ندم في حياتي ما أضعت من وقت، والندم الأكبر والأعمق، كان سنوات التدخين. جدتي التي لا تقرأ كانت أكثر حكمة بألف مرة: يا ستي عم تحرق جسمك وفلوسك.

لم نأخذ كلامَها على محمل الجد، إلا عندما ملأت يقظة العلم أرجاء الأرض حول الإدمان الشرير. كانت خرافة السيجارة من صنع ضحايا. ومنها أنَّها تحمل في رمادها الإلهام. وكان حظ أدعياء الكتابة أنَّ كلَّ ما منحتهم السيجارة علل الصدور واصفرار الأسنان، والمظهر الكئيب. اللهم اعفنا.

كنت جالساً في ردهة فندق فرنسي أبحث عن موضوع. عبثاً. ثم إنَّ ردهات الفنادق الصغيرة ليست مصادر إلهام. ثم جاء وجلس إلى جانبي ثلاثي من سيدتين ورجل بدا لي أنَّهم إخوة. ألقوا التحية بأدب، ثم راحوا يتحدثون في صوت عال. لغة غريبة لم أسمع مثلها من قبل. برغم أنَّ الوجوه عادية. ولكن ما شأني في الأمر. أنا أبحث عن موضوع لا عن رفاق.

ثم بعد قليل توجَّه إليّ الرجل بالسؤال: السيد فرنسي؟ قلت لا. عربي، وأنتم؟ أجاب: نحن من غجر فرنسا هتفت فرحاً: شكراً على كرمكم، أعطيتموني موضوع هذا اليوم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد