: آخر تحديث

دول الخليج وضرورة الاستثمار في أطفال طيف التوحد وفرط الحركة!

5
6
5

من واقع مراقبة لصيقة وتتبعٍ شخصي منذ نحو 5 سنوات وحتى اليوم، يمكن القول إن المجتمعات الخليجية تواجه تحدياً متنامياً، يتمثل في الارتفاع الملحوظ في نسب الأطفال المصابين باضطراب طيف التوحد (ASD) واضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه (ADHD).

هذا الملف الذي يغفل عنه كثرٌ لا يمكن النظر إليه من زاوية طبية أو تعليمية ضيقة، بل ينبغي التعامل معه بوصفه قضية استراتيجية تمسُّ الأمن المجتمعي لهذه الدول، وتؤثر على بنية الأسرة، ما ينعكس بشكلٍ مباشر على مستقبل شريحة من الأطفال يزداد عددها يوماً بعد آخر، لأسباب عدةٍ تحتاجُ إلى مقال مستقل لمناقشتها!

ولكي نكون منصفين ولا نصورها بوصفها مشكلة خليجية خاصة، لا بد من الإشارة إلى أنها أصبحت إشكالية عالمية لم يعد بالإمكان تجاهلها؛ حتى إن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أشار إليها قائلاً: «في السابق، كان طفل واحد فقط من بين كل عشرة آلاف يُشخص بالتوحد، أما اليوم فالنسبة أصبحت واحداً من كل ستة وثلاثين. هناك خطبٌ ما ويجب أن نعرف ما هو»، ما يكشفُ عن مدى الانتشار المتسارع لـ«طيف التوحد» وما يفرضه من استحقاقات وأعباء كبيرة!

في السعودية، أظهرت دراسة ميدانية بالعاصمة الرياض أجريت في 2017 – 2018 أن معدل انتشار «طيف التوحد» بين الأطفال بعمر 2 – 4 سنوات بلغ 2.51 في المائة، أي طفل واحد تقريباً من كل 40 طفلاً. بينما تتراوح تقديرات الإصابة بـ«فرط الحركة وتشتت الانتباه» بين 9 – 12في المائة أي نحو طفل واحد من بين كل عشرة.

البحرين سجلت في أول مسح وطني عام 2024 نسبة 4.22 في المائة من الأطفال بعمر 6 – 12 سنة يعانون من «فرط الحركة وتشتت الانتباه».

الإمارات ووفق بيانات «وزارة التنمية المجتمعية» سجلت 4.561 حالة «توحد» عام 2022.

هذه أمثلة عن بعض الدول الخليجية، وهي رغم اختلاف منهجية جمع البيانات، فإنها تؤكد أن المنطقة تواجه ارتفاعاً حقيقياً في نسب الانتشار.

رغم وجود مبادرات حكومية وجمعيات متخصصة، فإن عدد المراكز والخدمات المتوفرة لا يواكب الحاجة الفعلية الآخذة في النمو. كثير من المدارس تفتقر إلى البنية اللازمة للدمج، أو تتعامل مع هؤلاء الأطفال بصورة شكلية لا تراعي الفروق الفردية. ما يجعل آلاف الأسر تواجه أعباء مالية ونفسية كبيرة بسبب غياب المراكز المتكاملة، وارتفاع كلفة الخدمات التأهيلية، ما يقود تلقائياً إلى هدرٍ في حقوق الأطفال الأكثر هشاشة، ويزيد من الضغوط على عائلاتهم.

ما سبق يجعل من المُلحِ رسم خطط عاجلة وبعيدة المدى، مبنية على أسس علمية رصينة وحديثة، تكون جزءاً من استراتيجية وطنية تنظر إلى الموضوع من زاوية أمن مجتمعي، تكون مختلفة عن الممارسات العلاجية – الأكاديمية السطحية القديمة!

على سبيل المثال، هذه البرامج يجب أن توفر بيئات تتناسب واحتياجات أطفال «طيف التوحد» في فصول تعليمية مهيّأة تختلف عن الصفوف العادية، ويشرف عليها معلمون مدربون على التربية الخاصة وعلم النفس، إلى جانب فريق من الاختصاصيين في النطق والعلاج الوظيفي والعلاج السلوكي، مع توفير المستلزمات المادية من وسائل حسية وأدوات تواصل بديلة وتقنيات حديثة، كتلك التي تنمي وتحفز الدماغ والجهاز العصبي. صحيح أن هذه الفصول مكلفة مادياً وتحتاج إلى كادر على قدر رفيع من الفهم والصبر والخبرة، كما أن عدد الطلاب يكون فيها محدوداً لا يتجاوز 6 تلاميذ في العادة، إلا أنها فعالة جداً، والاستثمار فيها يحقق نتائج بعيدة المدى على صعيد تنمية المهارات السلوكية والذهنية والأكاديمية للأطفال، على العكس من برامج الدمج العشوائي.

إلى جانب ذلك، لا بد من اعتماد خطة تعليم فردي (IEP) لكل طفل، تُصمم وفقاً لاحتياجاته، وتُحدد فيها أهداف واضحة وقابلة للقياس، مع مراجعة دورية لإجراء أي تعديلات.

العائلات هي الأخرى من المفيد أن تخضع لبرامج تدريب وتثقيف ودعم نفسي، إذ لا ينفصل التقدم المدرسي عن البيئة المنزلية، مقروناً بحملات توعية مجتمعية تخفف من النظرة المرتابة من قبل البعض تجاه أطفال «طيف التوحد»، لأن حالة عدم الفهم العامة تجعل العائلات خجلة ومنكفئة على نفسها ومترددة في الخروج مع أبنائها، خصوصاً مع محدودية الأماكن العامة الصديقة للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة.

بالمواكبة مع كل ما سبق، تبرز الحاجة لوجود قوانين تطبق بصرامة، تضمن حقوق هؤلاء الأطفال وتمنع الممارسات غير العادلة تجاههم، وتكفل لهم الحق التام في التعليم دون عقبات أو تمييز سلبي.

الوفرة المالية في دول الخليج العربي والقيم الدينية والأخلاقية العليا التي تركز على الرحمة والعدالة، تجعل من الاستثمار في أطفال «التوحد» و«فرط الحركة وتشتت الانتباه» ضرورة وطنية وإنسانية يجب العمل عليها بجدية وأن تمثل أولوية حكومية وأهلية.

الاستثمار في هؤلاء الأطفال ليس صدقة اجتماعية، بل واجب وطني وقيمي، ورهان استراتيجي على أطفال يمتلكون قدرات ذهنية عالية ومهارات بدنية يمكن تطويرها، والأمثلة العالمية كثيرة لشخصيات تميزت كانت تعاني من صعوبات في طفولتها، مثل رجل الأعمال إيلون ماسك، والسباح العالمي مايكل فليبس الحاصل على 23 ميدالية ذهبية أولمبية!

إن إغفال الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة يعني خسارة مزدوجة، ضياع مواهب يمكن أن تساهم في تقدم المجتمع، وزيادة الأعباء النفسية والاقتصادية على العائلات. أما استثمار قدراتهم الخاصة فهو بناء لرأس مال بشري متنوع وقادر على الإبداع إذا تمت العناية به مبكراً، وتأكيد على أن الخليج العربي غني ليس فقط بموارده الطبيعية، بل قبل كل ذلك بإنسانيته وقيمه الأخلاقية الراسخة التي توارثتها الأجيال جيلاً بعد جيل!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد