: آخر تحديث

من سوء حظ القضية

3
3
3

سليمان جودة

من سوء حظ القضية في فلسطين أن يسحب البرلمان الفرنسي الثقة من حكومة فرانسوا بايرو، وأن تتصاعد الأمور بعدها إلى حد خروج احتجاجات واسعة في باريس ومرسيليا اعتراضاً على السياسات الاقتصادية والاجتماعية للحكومة.

صحيح أن مجيء حكومة بايرو أو ذهابها شأن فرنسي داخلي، وصحيح أن قرار ذهابها أو مجيئها يخص البرلمان الفرنسي، الذي يسمى الجمعية الوطنية في عاصمة النور، وصحيح أن اعتراض الفرنسيين على سياسات الحكومة قضية فرنسية في الأول وفي الآخر، ولكن الصحيح بالدرجة نفسها أن هذا كله مرتبط بشكل أو بآخر بالقضية في فلسطين. هذا كله مرتبط بالقضية من جهة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي سيشغله الأمر بالتأكيد عن متابعة موقفه القوي من القضية الفلسطينية.

لقد سارع الرئيس الفرنسي بتعيين سيباستيان لوكورنو، وزير الدفاع، رئيساً للحكومة الجديدة، ولكن الاحتجاجات، التي بدت حاشدة في باريس وفي مارسيليا خصوصاً، تأتي في هذا التوقيت وكأنها حجر عثرة في الطريق الذي مضى فيه ماكرون منذ فترة تجاه الفلسطينيين، وأعلن أنه سيواصله إلى نهايته مهما كانت العواقب التي يمكن أن تصادفه على طول الطريق. ليس سراً أن العالم على موعد آخر مع اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وليس سراً أيضاً أن ماكرون كان قد استبق الاجتماعات وأعلن صراحة أنه سيعترف بفلسطين أثناء هذه الاجتماعات السنوية.

وما كاد ماكرون يعلن ذلك حتى صار هدفاً للهجوم ليس فقط من إسرائيل، وإنما من الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها، ورغم شدة الهجوم وحدته إلا أن ذلك لم يجعل الرجل يتراجع عما أعلنه، بل ازداد تمسكاً به وإصراراً عليه.

وإذا شئنا الدقة في تصوير ما حدث، قلنا إن المشكلة للإسرائيليين والأمريكيين لم تكن في أن فرنسا أعلنت على لسان رئيسها أنها ستعترف بفلسطين، وأن ذلك سيكون على مرأى من العالم في مبنى الأمم المتحدة في نيويورك. لا لم تكن المشكلة هنا بالضبط، ولكنها كانت في أن دولاً كثيرة راحت تمضي وراء فرنسا في ذات الطريق، ولم يكن يوم يمر إلا وتعلن فيه عاصمة جديدة أنها ستشارك باريس فيما ستعلنه في الشأن الفلسطيني.

حدث هذا أمامنا جميعاً، وبدا مقلقاً لواشنطن وتل أبيب معاً، وكان مما زاد من القلق أن بلجيكا مثلاً أعلنت أنها ستعترف بفلسطين شأنها شأن فرنسا، وحين نعرف أن بلجيكا مقر للاتحاد الأوربي، فإن اعترافها يبدو وكأنه اعتراف ضمني من الاتحاد كله!

كذلك جاءت كندا لتعلن الأمر نفسه، وإذا تعلق الأمر بكندا فنحن نعرف ما تمثله للإدارة الأمريكية القائمة، ونعرف أن الرئيس الأمريكي، دونالد ترمب، كان في بدء رئاسته الثانية الحالية قد ملأ الدنيا حديثاً عن ضرورة ضم كندا لتصبح الولاية الأمريكية الـ 51، وأن هذا في نظره سيكون أفضل لها كثيراً!

ولم تملك الولايات المتحدة أمام تقاطر الدول وراء فرنسا بهذه الصورة إلا أن تعلن أنها لن تمنح الرئيس الفلسطيني محمود عباس ولا مسؤولي سلطته تأشيرات دخول لحضور الاجتماعات الأممية في نيويورك، وكأن هذا هو الذي سيمنع فرنسا والدول التي تقف معها من الاعتراف بفلسطين في مبنى المنظمة على مشهد من الدنيا.

ولم يملك ماكرون في المقابل إلا أن يعود فيؤكد أنه لن يرجع عما أعلنه وقرره، وأنه لا الهجوم عليه، ولا غير الهجوم سيرده أو يصده عما قرر الذهاب إليه في هذا الشأن، وكان هذا موقفاً محسوباً له ولحكومته بلا شك، إذ لا توجد حكومة في القارة الأوربية تعاملت مع القضية في فلسطين بهذه الشجاعة، وهذه الجرأة، إلا حكومة بيدرو سانشيز في مدريد، ولكن هذه قضية أخرى فيها تفاصيل كثيرة، لذلك يأتي سقوط الحكومة الفرنسية في التوقيت الخطأ، لأن انشغال الرئيس الفرنسي الآن، وربما إلى أن تنعقد الاجتماعات السنوية في موعدها، يظل منحصراً بأغلبيته في دائرة تأمين مجيء حكومة جديدة، وتهدئة الشارع قدر ما هو مستطاع، فهل هذا التوقيت مصنوع عن قصد؟

وهل الاحتجاجات التي خرجت في باريس وفي مرسيليا وجدت مَنْ ينفخ في نارها ويؤججها؟ وهل القصد هو أن ينشغل إيمانويل ماكرون عن الاعتراف بفلسطين بقضية أخرى داخلية؟ وهل.. وهل؟.. الحقيقة أن هذا وارد جداً حتى ولو لم يكن أمامنا دليل مادي واضح عليه، وإذا شئنا قلنا: «فتش عن المستفيد من وراء هذا المشهد الفرنسي بكامله.. فتش عن المستفيد.. ليس في داخل فرنسا، وإنما خارجها».


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد