كوثر الأربش
حكت أمي، ذات مساء قديم، عن بنت التاجر التي وضعت شرطًا غريبًا للزواج: لن تقبل رجلاً حتى يحل أحجيتها. فتدافع الأثرياء والوجهاء إلى بابها، لكن دون جدوى.
حكت أمي: ذات يوم، بينما كانت بنت التاجر ترفل في ذيلها المزركش، غنّاء كعذوق العنب، دعتها إحدى وصيفاتها ذاهلة، لأن تُطل من شرفتها العالية. بإبطاء خطت نحو الشرفة، كما لو أنها تقول: سئمتُ الفاشلين. لكنها ذُهلت مما رأت هذه المرة! شاب رثّ على قارعة الطريق، من الأسفل مباشرة تحت شرفتها، يعلق تيسًا من ذيله، ويحاول ذبحه بسكين مقلوبة!
نفخت بفمها: هه، يا لغبائه! ثم أمرت الوصيفة أن تدعوه للدخول.
لماذا تفعل به هذا؟ سألته بعد أن وقف أمامها ومعه تيسه. أجاب: لا أعرف، لم أذبح تيسًا قط. ضحكت بمرح، وأمرت خادمها بمرافقته و تعليمه كيف يذبح تيسه!
لكن مما لم تقله أمي: أن الشاب كان يائسًا من الدخول. وأنه لا ماله ولا وجاهته إنما «غباؤه» كان حصان طروادة الذي اخترق به جدار كبريائها وغنجها!
لم أكن أعلم حينما كانت أمي تحكيها، أنها كانت تبذر سؤالاً سيسافر معي: «لماذا تميل المرأة المخملية للصعاليك والأغبياء»
تبدو حياة الأرستقراطيين، في ظاهرها، فردوسًا أرضيًا: قصوراً فارهة، تحفاً نادرة، أزياء مترفة، وضحكات ملتقطة بعناية في حفلات لا ينقصها شيء سوى الصدق. لكن خلف هذه الصورة المصقولة يقبع فراغ مخيف: الخوف من الخطأ.
إنها ليست حياة ترف بقدر ما هي حياة رقابة. كل تفصيل محسوب، كل حركة مدروسة، كل جملة مكرّرة سلفًا. منذ الطفولة، تُدرَّب الفتاة الأرستقراطية على أن تكون مثالية: لا تركض لئلّا تسقط المزهرية، لا تضحك عاليًا لئلّا يُخدش البريستيج، لا تنطق بما يخالف الأعراف، لأنّ الكلمة قد تقتلع جذورًا. هكذا تتحوّل الطفولة إلى مسرح بروتوكولي، والبراءة إلى واجهة.
الفيلسوف نيتشه وصف في مكانٍ ما الحياة بأنها «إرادة قوة»، اندفاع لا يقبل الترويض. لكن الأرستقراطية تفعل العكس: تقتل الإرادة في مهدها. تجعل الإنسان ظلًّا لصورة العائلة، بدلاً من أن يكون ذاته. وفي هذا السياق، تبدو «اللياقة» أرقى أشكال السجن: أن تُتقني فنّ الحفل لا فنّ الفرح، أن تمشي على الرخام بلا أثر، أن تتعلّمي الإمساك بالكوب برشاقة لكن لا تُمسكي العالم.
هنا نفهم: لماذا تنجذب الفتيات المخمليات إلى «الصعاليك» و «الحمقى». المسألة ليست حبًّا للفقر أو تمردًا سطحيًا على الامتياز، بل توقٌ إلى الحرية. فالصعلوك، بقدر ما هو عاجز عن شراء قصر، هو قادر على الضحك بلا حساب. بقدر ما يفتقر إلى اللغة المنمّقة، يملك شجاعة الارتباك. «الأحمق» لا يخاف من أن يكون ناقصًا، بينما الأرستقراطي يعيش مأساة الكمال القسري. وكما يقول كامو: «الحياة عبث، لكن الكارثة أن تعيشها كما لو كانت معادلة هندسية».
هذه المفارقة ليست جديدة. ففي روايات تولستوي، كثيرًا ما نرى شخصيات من الطبقة الراقية تُفتن بالبساطة الفلاحية التي تتيح حياة أكثر صدقًا. وفي أعمال جين أوستن، نجد ميل البطلات إلى شخصيات أقل التزامًا بالبروتوكول وأكثر التصاقًا بالعفوية. الأدب، منذ قرنين، يلمّح إلى هذه الرغبة: الرغبة في الهروب من قفص الكمال المصقول نحو فضاء النقصان الحرّ.
في فيلم تيتانيك، كان جاك نافذة روز إلى هذه البراءة المفقودة. لم يمنحها ذهبًا ولا مكانة، بل علّمها كيف تكون إنسانة بلا واجهة. يكفي أن نتذكر المشهد البسيط حين علمها البصق في البحر: فعل غريب، طفولي، أخرق، لكنه حرّرها من أرقى القيود ؛ من ثقل أن تكون دائمًا مهذبة.
في تلك اللحظة، اكتشفت روز أنّ الخطأ قد يكون أكثر حياةً من الصواب.
هكذا نفهم المعادلة: الأرستقراطية تصنع أفرادًا متقنين لكن خائفين، بينما «الأغبياء» يملكون رفاهية العفوية. وما تفتقده الأرستقراطية في قمة مجدها هو ما يملكه الصعلوك في قاع حياته: رفاهية أن يكون أحمقَ.