يرفض نتنياهو الحديث عن "اليوم التالي" في غزة عمدًا، إذ يستبعد الحديث عن دولة فلسطينية، ويجرد السلطة الفلسطينية من أي دور، ويواصل فكرة السيطرة الأمنية المفتوحة لأنه يعلم أن السلام أخطر عليه من الحرب؛ إذ إن انقشاع دخان الحرب سيسمح للداخل الإسرائيلي أن يحصي الخسائر ويبحث في الأخطاء، لذلك يواصل الهرب إلى الأمام بوصفه خيار البقاء الوحيد بالنسبة له، رغم أن التاريخ يعلمنا أن القائد الذي يضع بقاءه غاية ينتهي إلى نهاية كارثية.
منذ السابع من أكتوبر، كانت الأزمة بالنسبة إلى نتنياهو في الداخل الإسرائيلي قبل أن تكون في غزة: لجنة التحقيق المؤجَّلة، أسئلة الفشل الاستخباري، ضغط عائلات الأسرى، انقسام المؤسسة العسكرية، وتكلفة الحرب والخسائر الاقتصادية المتصاعدة، وتزايد موجات الهجرة العكسية.. يضاف إلى ذلك أنه بات محاصرًا بتحالف يميني يساومه على بقائه ويرى في كل تهدئة خيانة، وفي كل مسار سياسي تنازلاً وجوديًا.. بن غفير وسموتريتش وثلة من المتطرفين هم اليوم من يملكون المفاتيح؛ لذلك يختار نتنياهو إطالة الحرب حتى لا تنتهي حكومته، ويحين يومه التالي شخصيًا.
في الشارع الإسرائيلي يتنازع الإسرائيليون، تياران: تيار يريد صفقة أسرى ووقفًا طويلاً لإطلاق النار، وتيار يرى في التراجع انكسارًا لهيبة الردع.. وبينهما يمارس نتنياهو لعبة التوازن بين الجيش والوسطاء والمعارضة، لكن الشرخ يتسع بين مجتمع يطالب بالإنقاذ والمحاسبة، وسلطة تفضّل إدامة الأزمة على دفع تكلفتها السياسية.. فأي توقف سيُشعل صراعًا داخليًا لا يريد نتنياهو أن يواجهه؛ لأنه لا يبحث عن حلول بقدر ما يبحث عن البقاء.
ويفاقم الأزمة أن نتنياهو لم يعد يواجه أزمة داخلية فقط، بل ضغوطًا دولية وأميركية متنامية مع انقسام الكونغرس بين مؤيد ومعارض، وهو أمر غير مسبوق، كما أن إسرائيل باتت معزولة إقليميًا أكثر من أي وقت مضى، حتى مع بعض الدول المطبّعة معها، ولديها الكثير من الملفات الحدودية المفتوحة، فيما تتسع أزمة الثقة بين المجتمع والجيش بعد سقوط أسطورة "الردع"؛ لذا، وبسبب سياساته الدموية وإصراره على إدامة الحرب لم يعد "اليوم التالي" مجرد معضلة خاصة بمستقبل غزة، بل كابوسًا وجوديًا يهدد دعاية "الأرض الموعودة" نفسها.