صبحة الراشدي
تجاوزت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، والليل، كما عهدته، كان رفيقاً خفيف الخطى، يسكنني بصمته ويملأني بوحاً. اعتدت أن أسامره بين أوراقي، أن أترك قلمي يجري كما يشاء، فلا يخذلني ولا يخاصمني. غير أن الليلة بدت مختلفة؛ إذ تحول القلم من رفيق وفيّ إلى خصم عنيد، ومن شاهد مطيع إلى قاضٍ صارم، ومن سيف يشق بياض الورق إلى رمح غُرس في خاصرتي.
دارت بيني وبينه حروب صامتة لا يسمعها أحد، ومرافعات طويلة لم تصدر فيها أحكام. أسئلة كثيرة كانت تهاجمني: أأكون أنا من أنهكته حتى جف، أم أنه هو من أرهقني حتى كففت عن البوح؟ هل القلم حقاً سوى أداة، أم أنه شريك يتقاسم معي أثقال العمر؟ وهل يجوز أن أعذره كما أعذر إنساناً؟لقد رافقني هذا القلم أربعين عاماً. كتب معي آخر الليل وبدايات الصباح، شاركني الانتصارات والانكسارات، نزف معي حتى آخر قطرة، ولم يخاصمني يوماً. كان امتداداً ليدي وصوتاً لروحي. واليوم، أراه متربعاً على مكتبي، يتوسط أوراقي كملك متجبر، يتجاهلني كأنني غريبة عنه. أراه، لكنني لا أجرؤ أن أمد يدي إليه؛ فمجرد لمسه صار اعترافاً بأنني هُزمت أمامه.
أويتُ إلى فراشي مثقلة، أغلقت أوراقي كمن يغلق كتاب عمره، علّ النوم يجود عليّ ببعض راحة، لكن الصبح لم يمهلني؛ إذ اخترقت خيوط الشمس جفوني بخجل حيناً وبقسوة حيناً آخر، تقترب لتداعبني، ثم تنقلب لتطعنني كالسيوف.
فتحت نافذتي، استقبلت الضوء، وجلست خلف مكتبي. هيأت قهوتي، وضعتها عن يساري، علّ عبقها يذيب هذا الجفاء، غير أن القلم ظل في مكانه، يتوسط الأوراق وكأنه يفرض عليها أن تتمرد، أن ترفض الاستسلام لحبر لم يُكتب.
أتساءل: هل القلم تعب حقاً بعد أن أنهكته خمسون مجلداً في أيام متتالية؟ أم أنني أنا من عجز عن استدعاء الحروف من أعماقي؟ هل الجفاء بيننا هو جفاء من مادة الحبر والورق، أم جفاء أعمق، بيني وبين نفسي؟
وأكثر من ذلك: هل القلم حقاً هو من هجرني، أم أنني أنا من هجرته أولاً حين بدأت أخشى المواجهة مع ذاتي؟
حملته بين يدي أخيراً، همست له كما يُهمَس لعاشق غاضب: «أيمكنك هجري في هذا الفصل من الشتاء؟ أيمكنك أن تتركني والبرد ينهش داخلي؟ ألم نتفق أن بزوغ الشمس موعد ولادتك؟ كم من مرة نزفتَ حبري حتى أنهيتُ مجلداً كاملاً، وكنتُ أظن أن في جعبتك حياة لا تنتهي. فهل استنفدتَ كل شيء؟».
لكن القلم ظل صامتاً، وصمته كان أبلغ من أي رد. بدا لي أنه لا يخاصمني أنا، بل يخاصم عجز روحي. كأنه يقول: «أنا لستُ سوى وسيلة، أما أنتِ فالأصل. فإن جفّت ينابيعك، فلن يحييني حبر العالم كله».
وضعتُه جانباً، ارتشفت قهوتي ببطء، تأملت تباشير الصباح. حينها أدركت أن البداية الحقيقية ليست في القلم ولا في الورق، بل في شجاعة البوح. إن البدايات لا تنتظر أدواتنا؛ هي تنبثق من قرارنا أن نواجه ذواتنا. وكل بداية، مهما بدت صغيرة أو مترددة، تحمل سراً لا يموت.
فالبدايات تصنعنا أكثر مما نصنعها. ومضى يومي سريعاً من نافذتي دون أن أشعر به. وحين أقبل المساء، وودعتُ الشمس واستقبلتُ القمر، جاءني صوته الخفي، ذاك الذي لم يكن يوماً خارجاً عني بل ساكناً في أعماقي:
«أنا لا أستطيع أن أهجرك، لأنني لستُ شيئاً منفصلاً عنك. لقد اعتدت إيقاعك، وتشكلت من نبضك، وتعلمت أن أفيض بما تهدينني من معنى. أنا لست سوى مرآتك؛ وجودي مرهون بوعيك، وانسكابي مرآة لما يجيش فيك. فإذا خلت أنني ابتعدت، فذلك لأنك ابتعدت عن نفسك. عودي إلى ذاتك، وستجدينني حيث كنت دائماً: في يدك، في ورقك، وفي العمق الذي لا يفنى... فأنا في الحقيقة لست قلماً، بل صوتك حين يتجسد».