فيصل الشامسي
تعد «الجيوبولتيكية» أو السياسة الجغرافية علماً وتحليلاً استراتيجياً يدرس علاقة الجغرافيا بالمصالح والقوة، وكيف توظف التضاريس والممرات والموارد والمواقع لفرض النفوذ وإعادة تشكيل التوازنات الدولية، وإذا كانت الجغرافيا السياسية تكتفي بوصف أثر المكان في الدولة، فإن «الجيوبولتيك» يمثل الجانب العملي الذي يحول هذا الأثر إلى سياسات وصراعات وتنافس استراتيجي بين القوى.
منذ بدايات القرن العشرين، سعى المفكرون إلى وضع نماذج تفسيرية لتوزيع النفوذ العالمي، حيث رأى ماكيندر أن من يسيطر على قلب العالم «أوراسيا الداخلية» يمسك بمفتاح قيادة العالم، في حين أكد ماهن مركزية القوة البحرية والممرات الاستراتيجية.
وركز سبايكمن على أهمية الحواف الساحلية لأوراسيا، باعتبارها مناطق حيوية لصراع النفوذ. هذه النظريات الكلاسيكية لم تعد قوانين جامدة، لكنها ما زالت توفر عدسات تحليلية لفهم تنافس القوى في عصرنا الراهن.
يشهد العالم اليوم -تحديداً القرن الحادي والعشرين- تحولات متسارعة تعيد صياغة الجيوبولتيكا في أبعاد جديدة، ومن أبرزها إعادة تشكيل القوى العالمية، حيث لم تعد الهيمنة الأمريكية المطلقة التي سادت بعد الحرب الباردة قادرة على الانفراد بتشكيل النظام العالمي.
فقد برزت الصين قوة اقتصادية وتكنولوجية، ورسخت روسيا حضورها العسكري في مناطق عدة، إلى جانب صعود قوى وسطى أكثر فاعلية ومن أبرزها دول الخليج.
وتبرز الجيواقتصاد أداة نفوذ، حيث بات الاقتصاد وسيلة استراتيجية تضاهي القوة العسكرية؛ فالحروب التجارية، وسباقات التكنولوجيا، والسيطرة على سلاسل الإمداد، وحتى الاستثمارات في الموانئ واللوجستيات، أصبحت أدوات جيوبولتيكية تؤثر مباشرة في موازين القوى.
كما يبرز تسليح الاعتمادية المتبادلة، حيث إن العالم مترابط عبر شبكات التجارة والمال والتقنية، لكن هذه الترابطات تحولت إلى أدوات ضغط في كثير من الأحيان، فالدول المسيطرة على المنصات المالية أو سلاسل التكنولوجيا تستطيع استخدامها سلاحاً جيوسياسياً ضد أطراف أخرى، ولا سيما في النزاعات والصراعات.
وتزداد أهمية الممرات البحرية، ومن أبرزها مضيق هرمز، وقناة السويس، وباب المندب، وملقا وغيرها، حيث إنها تمثل شرايين الاقتصاد العالمي، وأي اضطراب يحدث فيها يعكس هشاشة الاعتمادية العالمية، ويعيد التذكير بمركزية الجغرافيا في الاستراتيجيات الكبرى.
ومع تطور ساحات الصراع الجديدة، لم تعد المنافسة مقتصرة على الأرض والبحر، فقد برزت ساحات جديدة، وفي مقدمتها الفضاء السيبراني، حيث البيانات والبنى الرقمية تمثل مصدر قوة، والفضاء الخارجي عبر الأقمار الصناعية التي توفر الاتصالات والملاحة والمراقبة.
وتشمل هذه الساحات المجال المعرفي والثقافي الذي يشكل ركيزة للقوة الناعمة، ويعكس كيف يمكن للأفكار والصور أن تؤثر في مسار التوازنات العالمية.
وأمام هذا المشهد، تتبنى الدول استراتيجيات وأنماطاً مختلفة من السلوك لمواكبة البيئة المتحولة، ومن أبرز هذه الاستراتيجيات، الموازنة (Balancing) حيث تعتمد على تكوين تحالفات وقدرات لمواجهة الخصم.
وتأتي المسايرة (Bandwagoning) استراتيجية للانضمام إلى القوى الكبرى طلباً للحماية، ومن ضمن هذه الاستراتيجيات التحوط (Hedging) وتعني الجمع بين التعاون والردع وتعدد المسارات لتقليل الأخطار.
وتبرز استراتيجية القوة الذكية، حيث تقوم على مزج القوة الصلبة مع الناعمة لتحقيق أدوار فاعلة مستدامة. في منطقة الخليج، تكتسب الجيوبولتيكا بعداً خاصاً، فالممرات البحرية كهرمز وباب المندب تمثل شرايين للطاقة والتجارة العالمية، ما يجعل حماية هذه الممرات أولوية سيادية.
إضافة إلى ذلك، بات تنويع أدوات النفوذ من خلال الاستثمار في اللوجستيات والاقتصاد الرقمي والثقافة عاملاً أساسياً لتعزيز الحضور العالمي، وتبرز الإمارات نموذجاً لدولة اعتمدت على القوة الذكية؛ إذ جمعت بين القوة الاقتصادية الناعمة والتحالفات الاستراتيجية لحماية مصالحها وتعزيز مكانتها.
الجيوبولتيكا اليوم لم تعد مجرد «خرائط عسكرية»، بل هي شبكة متشعبة تضم الاقتصاد والتقنية والثقافة والفضاء السيبراني، من يمتلك القدرة على إدارة هذه الشبكات وحماية الممرات الحيوية، ويحسن توظيف القوة الذكية والتحوط، سيكون الأقدر على التأثير في النظام الدولي المتحول.
إن القراءة الدقيقة للتحولات الجيوبولتيكية ليست ترفاً فكرياً، بل بُعد أساسي لصناعة القرارات الحكيمة في عالم سريع التغير، حيث لا يمنح التفوق للقوة الصلبة وحدها، بل لمن يستطيع الجمع بين المرونة الاستراتيجية والرؤية الشاملة.