محمد خالد الأزعر
يعود الحضور الأول للجالية اليهودية في فرنسا، التي تقدر راهناً بنحو نصف مليون نسمة، إلى العهد الروماني قبل أكثر من ألفي عام، وإذا نحينا جانباً بعض التفاصيل وجدنا أنه تم الاعتراف باليهود كونهم فرنسيين متساوين، ولهم كل حقوق المواطنة عام 1791، أي بعد عامين فقط من الثورة الفرنسية، وبذلك انتقلوا من يهود يعيشون في فرنسا إلى فرنسيين يدينون باليهودية.
هذا الوجود الموغل في القدم، والمتغلغل في كل تضاعيف المجتمع، في دولة رائدة لجهة طقوس العلمانية وشعارات الإخاء والحرية والمساواة والتعلق بالمثل الديمقراطية، لم يشفع لأبناء هذه الجالية كي يعيشوا بمفازة من القلق والتوتر، وعدم الارتياح والتوجس والخوف من مباغتات ومضايقات عدائية، مصدرها أصولهم العرقية، ومعتقداتهم الدينية المختلفة.
في تحقيق أجري مؤخراً بالخصوص ذكرت عناصر من هذه الجالية أنهم «يحاولون التمويه على يهوديتهم، وإنكار صلتهم بإسرائيل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. وتتجه عائلات متزايدة منهم لسحب أبنائهم من المدارس العامة، بسبب تعرضهم للشتم، وأحياناً للعنف الجسدي، كما أنهم يفضلون الانتقال إلى مناطق ريفية، لأن المدن تعد خطيرة بالنسبة لهم».
يستسهل بعض المعنيين بتحري مدارات حياة الجماعات اليهودية تعليق هذا المشهد البغيض على شماعة ما يعرف بالعداء للسامية، وبالقدر ذاته من الاستسهال ينسب هؤلاء ما يحدث من تباغض تجاه جاليات أخرى إلى الفوارق والتمايزات في الدين أو لون البشرة أو المنابع الجهوية، ومن هنا تشيع مصطلحات من قبيل الإسلاموفوبيا والأفروفوبيا والآسيوفوبيا.
ليس هنا مقام وضع هذه المصطلحات تحت مبضع استبيان مدى صحتها أو منطقيتها من عدمه. ما يعنينا أنها موجودة بدرجات متفاوتة من الفعالية والتأثير، بين ظهراني معظم مجتمعات عالم الغرب، ولنا أن نفهم من ذلك كيف أن الأمم والشعوب تملك ذاكرة صلبة، تختزن فيها منظورات ومقاربات بعينها للذات وللآخر. ومع إدراكنا لأهمية الأطر القانونية والأخلاقية والثقافية في محاربة الجوانب الكريهة من هذا المخزون، تلك التي تتوفر أكثر في الدول «الديمقراطية»، التي تجرّم وتحرّم التمييز بكل أنماطه بين المواطنين، إلا أننا نلاحظ فشل هذه الأطر والمحددات في عمليات الضبط والتحكم، وصولاً إلى احتمال وقوع صدامات واصطكاكات بين الجماعات في لحظات فارقة بعينها.
كأن مفهوم المواطنة بكل إشعاعاته وتجلياته الحقوقية والثقافية لا يكفي لمنع هذا الاحتمال حتى في أعتى الديمقراطيات. وفي بعض النماذج لا تخفي الجماعة المسيطرة انحيازها ضد شريحة بعينها، ضاربة بقيم المواطنة وفروضها عرض الحائط. لنتأمل بهذا الخصوص تعامل إسرائيل الدولة مع مواطنيها من فلسطينيي 48.
نستحضر هذه التعميمات، ونجادل بصدقيتها، بالنسبة للمجتمعات الراسخة في كينونتها الدولية، والتي يفترض أن جماعاتها تعايشت تحت مظلة الوطن والمواطنة لحقب ممتدة، بمعنى أن هذا التعايش بتفاعلاته وتشبيكاته ومظلته لم ولا يشكل ضمانة نهائية لعدم إطلال الصدوع والمشاحنات بين هذه الجماعات ذاتها، ومن المؤكد أن تتجلى نوازع التميز والكراهية أكثر فأكثر من جانب هذه الجماعات معاً، بحق الوافدين من خارج الدائرة الوطنية أوالقومية، كاللاجئين والمهاجرين «الأجانب». ولسنا بحاجة هنا للإشارة إلى الشواهد التي تتوالى على تفاقم هذه الظاهرة، وانجراف أو انحراف قطاعات شعبية وسياسية إليها، بين يدي ما يعرف بتنامي الأحاسيس الشوفينية الشعبوية في معظم بلاد «العالم الحر».
ترى، والمشهد الدولي على هذا النحو، كيف يجيز البعض لأنفسهم طرح خيار تهجير أبناء الأرومة الفلسطينية، من غزة أوغيرها، ونقلهم إلى مواطن أخرى ؟! لا نتحدث هنا فقط عن العيوب الحقوقية، التي تجعل من عمليات الاقتلاع والتهجير قسراً في الظاهر والباطن، أو طوعاً في الظاهر وقسراً في الباطن، جريمة حقوقية وإنسانية تاريخية مكتملة الأركان، توجب إحالة مقترفيها إلى المحاكم الدولية، أو إلى مصحات الأمراض العقلية، إنما يشغلنا أيضاً وبصفة إجرائية، عدم اكتراث أصحاب هذا الخيار القميء، بتوابع الجرأة على تنفيذ هذه الجريمة، على صعد فلسفية أعمق.
الفلسطيني المهجر سيحمل معه الحنين لجذور هويته ومفردات ثقافته الوطنية الأولى أينما كان، لا سيما أنه لن يلقى العزة والأريحية في المجتمعات، التي يساق إليها بالسيف. كيف لا يحدث هذا، وقد راحت بعض أرسخ هذه المجتمعات على صراط الديمقراطية، وحقوق الإنسان تتأفف، من المختلفين داخلها لسبب أو آخر، رغم اندماج الكل فيها على قاعدة الوطن والمواطنة مئات السنين ؟!
تروي إحدى المواطنات الفرنسيات اليهوديات أنها ووجهت ذات مرة بمواطنة فرنسية كاثوليكية تصيح في وجهها «لماذا لا تعودي إلى تل أبيب ؟!». هذه الواقعة التي تتعلق في الأصل بمواطنتين فرنسيتين كابراً عن كابر، مرشحة بقوة للتكرار مع الفلسطيني، الذي سيكون حديث عهد باللجوء أو الهجرة أوالاستضافة أو حتى المواطنة، في أي بلد يسوقه قدر التهجير إليه.
وبالمناسبة فإن على المروجين لفكرة أن المهجرين الفلسطينيين إلى الرحاب الإقليمية سيحظون بمعاملة أو كرم استثنائيين بوصفهم «عرباً بين عرب»، إعادة حساباتهم. أدبيات اللجوء الفلسطيني منذ 1948، والشواهد التاريخية والوقائع المنظورة، تتعارض مع هذا التصور إلى أبعد الحدود، ندفع بذلك، وفي الفم ماء كثير.
[email protected]د. محمد خالد الأزعر