: آخر تحديث

الشعبوية وضبابية المشهد السياسي

8
8
7

لا تزال الشعبوية بمفهوم «نحن أولاً» ضبابية وعصية على دقة التعريف، فهي ليست توجهاً أو منهجاً سياسياً.. بل خطاب شعبوي يبدو في جانبه الوطني مُحفزاً لبناء مجتمع متماسك، و«أولاً» في التطور والانفتاح على الغير، والتمسك بالقيم الإنسانية والأخلاقية ليكون التفوق مثالاً وقدوة. أما الجانب الآخر الخطر الذي بدأت الصحف والأقلام المُثقفة تحذر منه فهو السلبي الآتي من الفوقية والاستعلاء والانعزالية وهي للأسف انتشرت عالمياً. هي تيار خطاب مُتشدد، بين «نحن» و«هم» في مواجهة العولمة التي تُهَدد اليوم بهذا الخطاب الشعبوي المُنحاز للمصالح الخاصة وإلغاء الآخر.
في خِضم التحولات العالمية وتنامي القلق الاجتماعي، والسياسات المتأرجحة بين الانفتاح والانغلاق ظهر شعار «نحن أولاً» بجانبه السلبي وانتشر عالمياً. هذا الشعار على بساطته اللغوية يخفي وراءه تعقيداً سياسياً وأيديولوجياً يستحق التفكيك والتحليل..
اتجهت السياسة الغربية إلى خطاب «الشعبوية المُتشددة» لتقول لا مكان للآخرين معي، حيث اسُتخدِمت في مختلف التيارات اليمينية واليسارية ونتج عنها أنواع مختلفة من الشعبوية، الدينية والقومية والماركسية وحتى الليبرالية. ويمكن القول إن الحركات الشعبوية ظهرت في السياسة الحديثة مع تفاقم أزمة الديمقراطية عالمياً. ومع انتشارها اليوم خاصة في ظل الإعلام الجديد الأقرب إلى الفوضى في انجذابه نحو التشدد، بدأ المثقفون يقرعون ناقوس الخطر. فالخطاب الشعبوي السلبي تكمن خطورته في طابعه البعيد عن العقلانية، وتكمن خطورة انتشاره بصعوبة مجابهة الخطاب الشعبوي بخطاب عقلاني مُضاد، فغالباً ما يسكت المُثقفون لتجنب موجات غضب شعبي لا يمكن ضبطها ولا تطويعها، والصمت هنا خطر أكبر.
«نحن أولاً» بمفهومها السلبي تعكس صعود الشعبوية المُتشددة في مختلف أرجاء العالم. شعارات تغذي روح النزعة الفوقية وترى في الذات مركز الكون وفي الآخرين تهديداً، من هنا يمكننا القول إن الشعبوية التي قد تضمن للمُرشَح مزيداً من الأصوات أو لسياسي مزيداً من الولاء، تحفر مستنقعات فساد وتضليل.. وانقسامات داخل المجتمع الواحد وعدائية بينها وبين الدول الأخرى.
أما «نحن أولاً» بمفهومها الإيجابي البنّاء فهي تُفهم ضمن إطار وطني عقلاني ومُتزن، بحيث تتحول إلى مبدأ فعّال في بناء الدولة الجامعة، وتشكيل سياسات عادلة ومُتوازنة، تُرسي أسس التفوق كقدوة في شعبها ومثالاً يحتذى بعيداً عن سلبية الفوقية والاستعلاء، فتكسب ولاء الداخل والخارج. وتُمهد الطريق أمامها لتصبح أكثر قدرة على التأثير إقليمياً وعالمياً وعلى لعب دور إيجابي في القضايا الإنسانية.. من المناخ إلى السلام.
هذا التوجه الإيجابي في الخطاب الوطني ضروري، لكن ما يجعل المشهد العالمي خطراً هو اعتماد الخطاب الشعبوي المُثير للمشاعر الفوقية. لا يقتصر الأمر على شعار «أمريكا أولاً» الذي أثار الكثير من الجدل حيث تبناه الرئيس ترامب في ولايته الأولى، ولم يضف إلى أمريكا سوى خلق بيئة غير متوافقة مع العالم، كرفض الاتفاقات الدولية (مثل اتفاق باريس للمناخ) وفرض قيود على الهجرة وبناء جدار على حدود المكسيك.
وفي البرازيل، في عهد الرئيس السابق بولسونارو اتخذت الشعبوية طابعاً يمينياً مُتشدداً مع ازدراء للمؤسسات وإنكار للعلم في مواجهة أزمة كورونا، وتصعيد الخطاب القومي ضد الحركات البيئية والأقليات. وفي المَجر رفع رئيس الوزراء فيكتور أوربان شعار «المجر للمجريين» واعتمد سياسة مُعادية للهجرة والاتحاد الأوروبي مَدعومة بإعلام رسمي يخدم سردية «الحصار الثقافي» على البلاد. وفي إيطاليا شهدنا صعود أحزاب يمينية مُتشددة مثل حزب الرابطة بقيادة ماتيو سالفيني الذي روج لخطاب مُناهض للمهاجرين والاتحاد الأوروبي، مستخدماً نفس الشعار «الإيطاليون أولاً»..
هذه ال «نحن أولاً» بوجهها السلبي، أزمة أخلاقية في السياسة الحديثة وجب الإضاءة عليها، حتى لا تتحول إلى عقيدة سياسية تضعف قيم التضامن والتعاون الدولي. هذا الخطر قد يؤدي إلى حروب قد تبدأ ثقافية وتحت الشحن الشعبوي تتحول إلى مواجهات عِدائية. الأخطر من ذلك أن الشعبوية المُتشددة لا تكتفي بمواجهة «الآخر الخارجي» بل تخلق انقسامات داخلية حادة. مما سبق نجد أننا اليوم أمام شعبوية مُتشددة قد تمتد من الغرب إلى الشرق خاصة إلى تلك البلدان المؤهلة للاشتعال بوقود الشحن العقائدي، فشعارات مثل «نحن أولاً» داخل مجتمع مُتعدد الطوائف والاتجاهات لن تكون موجة عابرة، بل أزمة عميقة قد تؤدي إلى حرب أهلية إذا لم تواجه بالوعي والحكمة، ورفض تحفيز المشاعر على حساب العقلانية.
هذا التيار قد يدمر العلاقات بين الدول بعضها البعض، وقد يدمر الداخل بحيث يقسم أفراد الوطن الواحد إلى «نخب وطنية» و«فئة خائنة»، وفي هذا تفتيت حقيقي لكل روابط الثقة بين المواطنين أنفسهم، وبين المواطنين والدولة.. في مواجهتها نحتاج إلى إعلام توعوي مسؤول لا إعلام موال لهذه الفئة أو تلك.
في مقال «صعود الشعبوية في أوروبا» للكاتب كاس مودي وهو من أبرز المتخصصين في دراسة الشعبوية الأوروبية أشار إلى أن الشعبوية المُتشددة لم تعد هامشية، بل أصبحت تياراً رئيسياً يغذي خطاب «الأمة أولاً». أما توماس بيكيتي في كتابه «الرأسمال في القرن 21» فهو يرى أن تزايد اللا مساواة أدى إلى غضبٍ شعبي استغلته الحركات الشعبوية التي قدمت «نحن أولاً» كبديل وهمي للعدالة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد