الربيع جاء السنة أيضاً دون تأخير. الأطفال يعودون إلى البيوت متأبطين رغماً عنهم. لأنهم ما إن يأووا إلى ما وراء الجدران حتى يتركوا أحلامهم خارج العتبة. أحلام فيها شجر عالٍ، وصخور متسلقة، وطائرات ورق ملونة، وفيها صبايا وضفائر مشلوحة على كتف واحدة للطوارئ، ولحظة الإغواء.
أعلام الربيع تطل كلها في الصحو. يتحكم فيها صاحبها، ويديرها كيفما شاء، ويملأها سيارات صغيرة، وبلابل خشبية، وكل ما لا يستطيع أن يقتني إلا في الخيال. أما أحلام الليل فتسري تحت الجفون الغافية مثل فراشة ضائعة في ليلة مقمرة كثيرة النجوم.
كأنك تدفعهم دفعاً، أتراب الساحة، للعودة إلى المنازل الصغيرة شبه العارية، الدار ملاصقة لحجرة النوم، ولا مفروشات إلا الحصيرة ومساندها وتكاياتها. لا مقاعد، لا مفروشات، لا طاولات، كأنما بيتنا مثل خيام البدو، لكن جدرانه من طين وحجارة. وجدّي يتصدر فسحة الدار متربعاً، يروي الحكايات متدفقة وقد وسّع الدفء في عروقه.
إنه المساء. وعلينا جميعاً أن نبيت، أي أن نأوي إلى البيوت. والمشاهد نفسها على جانبي الطريق. والناس أنفسهم. و«سليم البغل» يؤدي الدور الأخير من حراثة حقله، يدفع أمامه بغلين، داكنين، حزينين، متعبين، أرهقتهما ساعات التوقيت الصيفي. لماذا لا تضحك البغال؟ ويقول جدي مقهقهاً، وما الذي يضحك في أن يعيش الكائن حياته بغلاً؟ أو بغلين؟
أسرعوا أيها الصغار. عودوا إلى بيوتكم. جدي سوف يبدأ سريعاً في سرد حكاية اليوم. وبفصاحته الجميلة، ومحطات الظرف والسخرية. وكل ربيع تضحك جدتي للنكات والخبريات نفسها، وكأنها لم تسمعها من قبل. كنا نقول إنها لياقة الجدات، وآداب الجدود. أكثر نكات جدي عن البغلين وصاحبهما: فيها شيء منه، يكرر ضاحكاً. ثم يكرر أيضاً: خصوصاً من طباعهما.
قبل الإيواء إلى البيت نستعرض جميع الطقوس: مرور البغلين أولاً وأجراسهما ترن برتابة وأسى، المعلم يغلق باب المدرسة بعدما تأكد أنها خلت تماماً من تلامذته، ويستعد للتوجه نحو قريته القريبة، وأوراق الشجر تحفحف نشيدها المسائي قبل أن يغرق كل شيء في الصمت والعتم.