: آخر تحديث

كيف يفكر الرجال الثلاثة؟ جينبينغ... الحزب أولاً (1)

3
3
3

الرجال الثلاثة هم: الرئيس الصيني شي جينبينغ، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الأميركي دونالد ترمب. كيف تفكر هذه الشخصيات التي تلعب الدور الأكبر في تشكيل عالمنا؟ ما طبيعتهم وصفاتهم ومزاجهم؟ وكيف ينظرون إلى العالم؟ وكيف يطمحون ويعملون على تغييره؟ ربما هذه هي الأسئلة الأهم التي يجب أن نبحث عن إجابات منطقية لها حتى نتوقع ماذا سيحدث مستقبلاً.

لنبدأ بالرئيس الصيني شي الذي اختلف عن غيره من أسلافه ويرى على نطاق واسع أنه الشخصية الأقوى بعد ماو تسي تونغ خصوصاً بعد تعديل الدستور ومنحه خيار الحكم لفترة مفتوحة. الرؤساء السابقون كانوا يسعون إلى إخراج الصين من فقرها وتراجعها عبر الاقتصاد، ولكن هذا الدور لم يعد يكفي الصين الجديدة. بكين شي لم تعد نفسها بكين ماو أو دنغ شياو بينغ. مع صعود القوة الاقتصادية تصعد الطموحات السياسية والعسكرية وتطمح إلى لعب دور في تشكيل النظام العالمي. وهذا ما حدث سابقاً مع قوى عظمى. بريطانيا العظمى التي لعبت الدور الأكبر في القرن التاسع عشر في تشكيل النظام الدولي كانت تملك الأسطول البحري الأقوى، وكان الهدف حماية تجارتها حول العالم وضمان تدفق السلع بين مستعمراتها ولندن. مع زيادة نفوذها الاقتصادي وقوتها العسكرية زادت طموحاتها للعب دور أكبر لحماية مصالحها وترسيخ النظام الذي يناسبها. الشيء ذاته حدث مع الولايات المتحدة التي كانت لا تملك بعد ثورتها إلا نحو عشرين ألف جندي مشغولين بمطاردة السكان الأصليين في الغرب. مع ازدياد قوتها الاقتصادية (كانت أكبر المستفيدين من النظام الليبرالي الذي أسَّسته بريطانيا من دون أن تدفع ثمن حمايته) صعدت قوتها العسكرية وطموحها السياسي لتشكيل العالم على صورتها الليبرالية الرأسمالية. الصين تتبع ذات مسار القوى العظمى. الصعود الاقتصادي يتبعه الصعود العسكري والبحث عن مكانة عالمية أكبر. الرئيس الصيني يملك رؤية استراتيجية واضحة. يتضح ذلك من تصريحاته وخطاباته السنوية. وقد حضرتُ خطابه الأخير في بكين الذي وضع فيه رؤيته الاستراتيجية (المفارقة أنه في الوقت نفسه، الخطاب الهادئ صادف المناظرة الأولى بين ترمب وبايدن التي تبادلا فيها الشتائم). رؤيته باختصار، إذا استبعدنا الخطابة المتوقعة، هو تغيير النظام الدولي الحالي الذي لم يعد، من وجهة نظره، صالحاً ويخدم مصالح القوى الغربية، وضرب مثالاً على ذلك بالحروب التي خاضتها أميركا حول العالم (العراق، وأفغانستان، ودعم إسرائيل اللامشروط). وتحدث الرئيس الصيني عن استخدام ملفات مثل حقوق الإنسان والقيم الغربية لفرضها على الأمم والثقافات الأخرى. عسكرياً، أصبحت للصين طموحات واضحة بفرض هيمنتها على بحر الصين الجنوبي. أسطولها الأكبر بـ234 سفينة حربية، والميزانية الدفاعية هي الثانية بعد الولايات المتحدة (246 مليار دولار على الإنفاق العسكري).

تتسم شخصية الرئيس الصيني بالصلابة؛ فقد مرَّ بظروف صعبة (تعرَّض والده للاضطهاد 16 عاماً في فترة حكم ماو). مؤمن بفكر المؤسسة والحزب. تعرَّض طلبه للرفض مرات كثيرة لكنه أصر على الدخول، كان مؤمناً بأنه من دون الانضمام إلى الحزب الشيوعي لن يصل أو يحقق طموحاته. وما زال هذا تفكيره، فهو مؤمن بأنه من دون الانصياع لحزب المؤسسة الحاكمة والخضوع لشروطه ومنطق الدولة الصينية لن تحقق بكين أهدافها الاستراتيجية البعيدة المدى.

عندما قرر جاك ما، مالك شركة «علي بابا» الخروج عن النص ووجَّه انتقادات قاسية إلى الحكومة الصينية، عدّ ذلك تجاوزاً على المؤسسة والحزب الحاكم. غاب جاك عن الأنظار أشهراً عدة وعاد بعد تقليم أظافره الحادة.

المزيد من الحريات السياسية سيضرب في صميم المؤسسة وتفككها من الداخل، وهذا ما حدث في نهاية الثمانينات عندما اندلعت الاحتجاجات في ميدان تيانانمن، ولا يريد جينبينغ تكراره. هذا ما تطمح إليه القوى الغربية منذ تبني بكين النظام الرأسمالي ودخولها منظمة التجارة العالمية. الإصلاحات الاقتصادية تعقبها إصلاحات سياسية وديمقراطية على الطريقة الغربية، وهذا ما يرفضه الرئيس الصيني لأنه يؤمن بأن الديمقراطية على الطريقة الغربية ستترك الصين مجزَّأة ومفكَّكة. ولهذا ضرب عزلة تقنية على الصين لمنع تسرب الأفكار الغربية «الملوثة». حظرَ تشكيل الأحزاب، وعزَّز الرقابة الصارمة، ومن خلال التثقيف الجماعي على الطريقة اللينينية غرسَ أفكار الوطنية الصينية التي يعبِّر عنها الحزب الشيوعي في عقول الأجيال الجديدة. ولكنه مؤمن بالحريات الاقتصادية، والسوق الحرة، وتدخُّل الدولة لدعم الشركات الصينية، وفي الوقت الذي أربك ترمب الأسواق بعد فرضه التعريفات الجمركية وبدا كأنه زعيم من القرن التاسع، ظهر الرئيس بصورة الرجل الرأسمالي الذي يبعث على الطمأنينة. ولكن قيادة العالم التي يطمح إليها جينبينغ ليست مسألة سهلة، وتتطلب مسؤوليات جسيمة؛ منها التدخل لمنع اندلاع حروب، أو معاقبة القوى المارقة، أو فرض عقوبات، والمحافظة على النظام العالمي من الفوضى.

ولكن كيف ستواجه الصين هذه المعضلة بحجة عدم التدخل مع أن بعض أصدقائها وحلفائها من المخربين كما هو الحال مع كوريا الشمالية التي تهدد العالم بالصواريخ النووية وروسيا التي غزت أوكرانيا؟ هل ستمنع الميليشيات من تهديد التجارة العالمية؟ هل ستحارب الجماعات الإرهابية؟ كيف سيكون شكل العالم إذا أصبحت الصين القطب الأوحد أو تشاركت مع قوى أخرى إدارة شؤون العالم؟ هل ستوقف المجازر وهجمات الغازات الكيماوية؟ هل سيلاحق أسطولها القراصنة ومهربي المخدرات؟ هل سترسل القتلة إلى محكمة العدل الدولية؟ لا أحد يستطيع أن يجيب عن هذه الأسئلة، ولكن الأكيد أن الرئيس الصيني، الرجل القوي، رجل الدولة والحزب، رجل لا تسيطر عليه عواطفه، يطمح إلى أن يرى الصين في مكانة عالمية تستحقها، وعلى العالم عاجلاً أو آجلاً أن يعترف بذلك... وللحديث بقية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد