محمد ناصر العطوان
في قلب الصحراء، حيث لا شيء يثبُت إلا المستحيل والعطش، تنبت بئر تحمل في جرتها أسرار السماء.
ماء زمزم لا يسكن في الأرض، بل يسكن في حنايا المؤمنين الذين يأتونه بقلوب مكشوفة.
ذات يوم، حدثت نفسي وأنا في العمرة أن هذه البئر تسمع همسات الماضي كلما ارتوى منها مسلم، وأن هذا الماء ليس للعطش... بل للأسئلة التي لا تجرؤ أن تسألها نفسك.
ذات يوم أيضاً، وقبل أن يُولد كاتب هذه السطور بمئات السنين، وقف ابن حجر العسقلاني أمام البئر، وكان فقيراً إلا من حزن في عينيه، شرب، ودعا:
«يا رب، اجعلني افهم كلماتك كما كان الإمام الذهبي يفهمها».
الماء انساب في عروقه كحبر، فكتب به كتباً تحمل أسماء الموتى، وتحاور الأحياء.
قبل أن يموت، وجدوا تحت وسادته قطعة خبز جاف كتب عليها: «هذا ما تبقى من دعائي».
وقبل العسقلاني بمئات السنين مر رجلٌ آخر، كان يحمل لساناً ثقيلاً كالحجر، شرب، وطلب:
«يا رب، اعطني لساناً يشبه الماء».
فتحول لسانه إلى نهر، يجري فيه الفقه والشعر.
حتى بعد ألف عام، لا يزال الناس يسقون منه: «هذا هو الإمام الشافعي».
الإمام السخاوي شرب زمزم وطلب علماً نافعاً، والحاكم النيسابوري سأل الله أن يرزقه حسن التصنيف والتأليف.
وفي الليل، تجتمع الأرواح حول البئر.
كلها تحمل أسئلة:
هل يمكن للماء أن يحمل العلم؟
والبئر تجيب بصمت:
«لقد شرب مني الجائعون فشبعوا، والجهال فعلموا، والخائفون فصاروا أنهاراً».
الآن، حين تذهب للعمرة أو الحج و تشرب زمزم، انظر إلى البئر التي تحت صدرك، فالماء ليس سوى مرآة، والدعاء ليس سوى خطوة على طريق العبادة.
وكما قال العارفون:
«إنه ليس ماء، بل هو سؤال مقدس:
ماذا تريد أن تكون قبل أن تجف؟». وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.