: آخر تحديث

بريطانيا... نكء الجراح

6
6
5

خلال الأيام القليلة الماضية ظهر فجأة اسم رئيس الحكومة البريطانية الأسبق بوريس جونسون في عناوين الأخبار، وعاد وجهه يحتلُّ شاشاتِ القنوات التلفزيونية. لم تكن تلك العودة بالحميدة؛ كونها تُذكّر بما لا يودُّ الناس تذكّره، ونعني بذلك السنوات التي حلَّ فيها وباء «كوفيد- 19» بالأرض، وأدّى إلى فرض الإغلاق العام.

وسائل الإعلام البريطانية قامت بإحياء ذكرى مرور خمس سنوات على ذلك اليوم الذي أطلَّ فيه جونسون، بصفته رئيس الحكومة، ليعلن للبريطانيين قراره حجبهم بقوة القانون داخل أسوار بيوتهم، ومنعهم من مزاولة أعمالهم. ويبدو أن وسائل الإعلام لم تجد أفضل من إعادة تسجيل مرئي لجونسون، حيث ظهر على الشاشات، ذلك اليوم، بوجه يُخيّم عليه الهَمُّ والغَمُّ، وهو يعلن إلى البريطانيين القرار، وكأنه ينعى إليهم جميعاً موت ما عرفوا من أوجه الحياة. كان ذلك في يوم 23 من شهر مارس (آذار) 2020.

بريطانيا لم تكن أولى دول العالم التي بادرت بفرض حالة الإغلاق العام، وإجبار الناس على الاحتماء بجدران بيوتهم تفادياً الإصابة بالوباء. ويعزو كثيرون من المعلقين والمحللين البريطانيين استفحال الوباء في بريطانيا، وموت العديد من المواطنين، إلى تلكّؤ الحكومة في اتخاذ قرار الإغلاق. ويرون أن التوقيت جاء متأخراً، وكان باهظ الثمن.

الآن، يبدو أن تلك الفترة الزمنية العصيبة وكأنها انمحت من ذاكرات كثيرين. وفي تفسيري، ربما يعود السبب في ذلك إلى أن مشاغل ومتاعب الحياة من الكثرة بحيث لا تتيح لهم فرصة للتذكّر، وخاصة أنّها ليست فترة مبهجة، بل مؤلمة وعصيبة، فقدوا فيها أحبّة لهم، وأصدقاء وجيراناً وأقارب، إلا أن نسيان أوجاع فترة انتشار الوباء لدى الكثير من الناس لا يعني أن الانعكاسات السلبية لتلك الفترة على أوجه الحياة المختلفة انمحت هي الأخرى، بل ما زالت قائمة إلى يوم الناس هذا، إن لم يكن كلها فبعضها. ولعل أكثرها حضوراً انتشار ظاهرة التواصل بالإنترنت عن طريق برنامج «زووم»؛ إذ اضطر الناس إلى الالتجاء إلى ذلك البرنامج للتواصل فيما بينهم، كما لجأت إليه المدارس والجامعات لمواصلة برامجها التعليمية. وكذلك فعلت الشركات ودواوين الحكومة. برنامج التواصل «زووم» ما زال ساري المفعول.

كذلك لا مفر من الإشارة إلى تأثير الإغلاق العام على أنفسنا، وعلى مناحي الحياة الاقتصادية. فنحن كبشر عرفنا من خلال الإغلاق العام قيمة الحرّية، وعرفنا معنى أن تُسلب منّا فجأة، ونصير سجناء بين جدران صمّاء.

وفي المناحي الاقتصادية، أدى الإغلاق العام إلى تضرر قطاع كبير من الناس، بسبب خسارة أرزاقهم وإعلان إفلاسهم. هذا من جهة.

من جهة أخرى، اضطرت الشركات والمؤسسات والوزارات الحكومية إلى منح الإذن للعاملين بها لأداء واجباتهم الوظيفية من بيوتهم، عبر استخدام شبكة الإنترنت. وهذا بدوره أفضى إلى أمرين: الأول اضطرار كثير من الشركات إلى تغيير مقرّات أعمالها الكبيرة بأخرى أصغر حجماً وأرخص أجراً، نتيجة وجود عدد قليل من العاملين. واستتبع ذلك قيام العديد من أصحاب تلك العقارات المكتبية بإغلاقها لعدم وجود مستأجرين. الضرر كان كبيراً على المالكين؛ لأن الشركات والمؤسسات اكتشفت أنه بالإمكان الاستغناء عن اكتراء مقرّات ومكاتب كبيرة مكلفة مالياً، ليست في حاجة إليها، وأنه بالإمكان تعويض ذلك من خلال مواصلة العاملين قضاء مهامهم الوظيفية من بيوتهم عبر الإنترنت.

الثاني، أن العديد من العاملين من الموظفين في الشركات والمؤسسات والوزارات الحكومية، بعد قضائهم شهوراً يعملون من البيوت، من دون تجشم عناء الذهاب إلى المكاتب، استحسنوا الأمر، ورفضوا العودة إلى العمل في المكاتب، وخاصة في دواوين الحكومة البريطانية، مما اضطر الحكومة إلى ممارسة الضغوط والتهديد باللجوء إلى الاستغناء عن خدماتهم.

وأضَرّ الإغلاق بأصحاب العقارات المكتبية المؤجرة؛ كونها بقيت مغلقة، خاصة في الحي المالي بلندن. وانتهى الأمر أخيراً بإيجاد نوع من حلّ وسطي، يقضي بممارسة الموظفين أعمالهم من بيوتهم ثلاثة أيام في الأسبوع، والذهاب إلى المكاتب يومين. الآن صار العمل من المنازل أمراً عادياً. والعديد من الشركات والمؤسسات تفضّله على العمل من مكاتب مؤجرة تكلف أموالاً كثيرة.

خمسُ سنوات قد تعدُّ قليلة في حسابات وتواريخ الشعوب والأمم، لكنّها عسيرة جداً حين تكون مرفوقة بانتشار وباء قاتل، يحتّم على الحكومات اللجوء إلى اتخاذ تدابير غير مسبوقة، مثل سلب حرّيات الناس بمنعهم من الخروج من بيوتهم، وتَدبُّر أمر أرزاقهم، وتُعاقب من يخالف تلك التدابير بعقوبات مالية أو بالحبس. وليس غريباً أن يفضّل أغلبنا تناسي آلام وأوجاع تلك الفترة الزمنية، لكن من الغريب لجوء وسائل الإعلام إلى تذكير الناس بتلك الأيام المؤلمة، وهي بعملها هذا تكون كمن ينكأ جُرحاً.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد