محمد سليمان العنقري
حالة من الاستنفار يعيشها العالم منذ أن بدأ الرئيس الأمريكي ترمب ولايته الثانية في يناير الماضي فقد أصدر عشرات الأوامر التنفيذية والقرارات التي وعد الناخبين بأنه سيطبقها كأساس يحدد ملامح عهده وأهدافه. وبعيداً عن الشأن الداخلي فإن قراراته المتعلقة بالخارج تسببت بحالة من الإرباك الشديد في المشهد الاقتصادي العالمي تحديداً من خلال سياسة الرسوم التي بدأ بتطبيقها على أهم شركاء بلاده مثل كندا والمكسيك وأوقف تنفيذها لمدة شهر بعد ان استجابوا لأهم مطالبه بمراقبة الحدود لمنع الهجرة غير الشرعية، وكذلك تجارة المخدرات، اضافة لأوروبا التي توعدها بذات الإجراء قريباً لأسباب تجارية، وكذلك طبقها على الصين أكبر منافس لأميركا وشريكها التجاري الأول، واذا كانت اهداف الرئيس ترمب من كل مايقوم به داخلياً وخارجياً باتت واضحة وتركز على خفض عجز الميزانية، وكذلك لجم الدين السيادي الذي يزداد بوتيرة متسارعة جداً ومقلقة وخفض العجز بالميزان التجاري، وقد قالها صراحة ان الرسوم من ادوات خفض العجز الذي اصبح بحدود تريليون دولار سنوياً وجله مع الصين واوروبا فإن هناك ماهو أبعد ايضاً في توجهاته والمتعلق تحديداً بمنع تسيد الصين للعالم اقتصادياً وازاحة أميركا من هذه المكانة الرفيعة.
ما يعمل عليه الرئيس ترمب هو فك الحصار الذي وجدت بلاده نفسها فيه من خلال توسع مبادرة الحزام والطريق، فصحيح أن الصين عندما أطلقتها لم تضع أي هدف عدائي ضد اميركا، بل هي اتجهت لمفهوم جديد في التعاون الدولي وركزت على الدول النامية التي تعد من أهم الأسواق الواعدة والمتعطشة للتنمية وجميعها دول تملك موارد طبيعية وامكانيات بشرية ومواقع جغرافية مهمة، وكانت بحاجة لاندماجها في مشروع اقتصادي استراتيجي عالمي يوفر الفرصة لاستثمار هذه الإمكانيات من خلال مبادرة الحزام والطريق ،أو ما يُعرف مجازاً باسم طريق الحرير التي أطلقت عام 2013 ولاقت قبولاً واسعاً من 140 دولة حتى الآن و بمختلف القارات وتشكل هذه الدول نصف الناتج الاجمالي العالمي و75 بالمائة من سكان العالم؛ فالدول الغربية بقيادة أميركا والتي تمثل النسبة المتبقية من سكان العالم تستأثر بنصف الناتج الإجمالي العالمي، وتمتلك مفاتيح الاقتصاد الدولي في مجالات رئيسية كالنظام المالي والتفوق التكنولوجي والاستئثار السياسي والتمدد العسكري، وكل ذلك أصبح يستغل ويضع العالم في واقع سلبي بزيادة الفجوة التنموية والاقتصادية دولياً، فقامت مبادرة الصين لتصحيح هذا الخلل ولتغير بوصلة الاقتصاد العالمي والتجارة الدولية؛ ففكرتها تقوم على الاستثمار بالبنى التحتية بهذه الدول مثل المطارات والموانئ والسكك الحديدية وتوفر إيضا امداد الصين باحتياجاتها من المعادن والطاقة وقد ادت هذه المبادرة لزيادة نمو الاقتصاد العالمي وزادت حجم التجارة الدولية وأعطت فرصة للدول النامية لكي تستفيد من إمكانياتها بعيداً عن استغلال القوى الغربية التي كانت تستعمرها سابقاً وبقيت تؤثر باقتصادها حتى بعد تحررها منها.
واليوم أصبح الواقع التجاري والاقتصادي العالمي مختلفاً تماماً وأصبحت الصين والدول الناشئة والنامية هي الجاذبة للاستثمارات عالمياً، ولها دور كبير وأساسي في إدارة اقتصاد العالم وتجارته ووصلت الصين للمركز الثاني خلف إميركا بحجم الناتج الاجمالي لكنها تتصدر المركز الاول بالتجارة الدولية وسلاسل الامداد، واتضح ذلك في جائحة كورونا فقد استفاق العالم على أن الصين تزوده بثلث احتياجاته من المنتجات المصنعة النهائية او التي تعد من مدخلات الانتاج فثلث رافعات موانئ العالم في الصين وهي اكبر مستورد للمعادن وأيضا العلى نمواً في الطلب على الطاقة بمختلف انواعها اما جغرافياً فهي الشريك الاول لاغلب دول قارة افريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية التي تعد مع المكسيك الحديقة الخلفية لاميركا، والتي استشعرت خطر تطويق الصين لها بمحيطها القريب من خلال استثمارها في بناء ميناء البيرو أحد أكبر موانئ العالم ومصانعها في المكسيك التي تصدر منتجاتها من السيارات الكهربائية لاميركا، وايضا انضمام بنما لمبادرة الحزام والطريق والتي لديها واحد من أهم الممرات المائية بالعالم والاكثر تأثيراً على تجارة اميركا عالمياً فقد بدا الرئيس ترمب مساراً تصحيحياً يهدف لكسر هذا الطوق فأجبر بنما على الانسحاب من مبادرة الحزام والطريق، وطالب بشراء جزيرة غرينلاند وسيغير اسم خليج المكسيك لخليج اميركا وبدا حملة رسوم يفرض من خلالها على اقرب حلفاء بلاده شراء المنتج الامريكي ونقل بعض خطوط إنتاج شركاتهم التي تصدر لاميركا حتى تصبح منتجات محلية ويزيد من حجم التصدير ويقلل الواردات اضافة لعديد من التوجهات التي يتوقع أن يقوم بها تباعاً حتى يضعف مبادرة الحزام والطريق خلال السنوات الفليلة القادمة ويخرج عشرات الدول منها.
أميركا دخلت بقيادة ترمب مرحلة مواجهة كبرى مع واقعها الذي كان يتجه للتراجع عن مركزها الاول بالاقتصاد العالمي لصالح الصين، واتبع سياسة كسر العظم للتخلص من إرث ما يراه قصوراً سابقاً في الدفاع عن مكانة أميركا ودولارها فهل ينجح ام ان الطوق أصبح محكماً ومن الصعب إزالته ما يجيب على هذا السؤال ليس قدرته على تنفيذ تهديداته بالرسوم فهي ورقة اثرها قصير الأمد، بل إنها ستنقلب ضد بلاده بانعدام الثقة بالتعامل معها وتوجه الدول لتقليل حجم التجارة مع أميركا، فقدرته على تعزيز الثقة ببلاده سواء في احترام الاتفاقيات التجارية، وكذلك الوضوح في توجهاته السياسية بما يخدم السلم الدولي بعدالة واتزان دون تحيز هي الحل الحقيقي لتبقى أميركا بمكانتها المتقدمة بكافة المجالات والشريك الأكبر لكل اقتصادات العالم.