: آخر تحديث

كيف تسقط الأنظمة؟

3
3
3

لا أميل إلى تفسير سقوط الأنظمة السياسية عموماً بنظرية المؤامرة، وأن هناك أيادي خفيّة تفعل فعلها في الظلام لخلخلتها ومن ثم سقوطها. تسقط الأنظمة عندما يصل رأسها إلى مكان يرى أن رأيه هو فقط الصحيح والنهائي، ورأي الآخرين هو الخطأ؛ ليس رأي المعارضة، إن وجدت، فقد يكون مبرراً أن يراه خاطئاً، ولكن حتى رأي معاونيه، ومن يحمل الولاء للنظام، ويفكّر في حلول من داخله للمشكلات، قد لا تروق الرأس القابض على السلطة. أمثلة كثيرة في تاريخنا العربي الحديث والمعاصر، من صدام حسين إلى بشار الأسد، رغم اختلاف الظروف، فإن الأصل هو التفرد في الرأي في الشؤون العامة، وإيصال المقربين إلى منطقة أن من يقول أو يفكر برأي آخر يُعزل ويُهمّش أو حتى يعدم. مذكرات كثيرة متناثرة بين أيدينا، ربما يحتاج حصرها علمياً إلى أطروحة دكتوراه موسعة، من مذكرات نزار حمدون، إلى مذكرات علاء بشير (طبيب صدام حسين) إلى مذكرات عبد الحليم خدام، إلى مذكرات دعد شرعب (أنا والعقيد)، وغيرها مما هو متاح من الكتابات والمقابلات المنشورة، وكلها تقود إلى تيمة واحدة (التفرد بالرأي والاعتماد على العسس في الحكم)!! هناك أمور طازجة، إن صح التعبير، آخرها مقابلة الإعلامي حسين الشيخ (بودكاست بتوقيت دمشق) وهو إعلامي متميز في قناة الحدث، مع آخر رئيس وزراء سوري في عهد بشار، الذي امتد من 2000 إلى 2024، واستهلك عشرة رؤساء وزارات، أي في المتوسط رئيس وزراء كل سنة وأربعة أشهر تقريباً!!آخر رئيس وزراء كان مقامه في السلطة (مع تجاوز التعبير الأخير، أي السلطة) لم يدم أكثر من نيف وشهرين، يقدم لنا بوضوح تلك المعضلة في آلية الحكم في مجمل حديثه، الرئيس هو صاحب الرأي الصحيح والأول والأخير، وهو الذي يعرف أكثر من غيره. لم يكن صدام حسين بعيداً من ذلك، ولا القذافي، ولا علي عبد الله صالح، ولا زين العابدين بن علي وأمثالهم كثير. محمد غازي الجلالي وهو رئيس الوزراء الذي سلم السلطة لمجموعة أحمد الشرع في بداية كانون الأول/ ديسمبر الماضي يقول لحسين الشيخ، إنه كرئيس وزراء ليس له صلاحية أن يوقع على أي قرار يتخذه مجلس الوزراء، فقط يُكتب القرار، ويرسل إلى مكتب الرئيس، ثم تأتي تعليمات، وقّع على هذا القرار ولا توقّع على ذلك القرار!! تعليمات شفوية فقط، ويقوم الرئيس بتنفيذ تلك التعليمات، بل في بعض الأوقات كما قال (وهو شاهد حيّ، في البودكاست مع الإعلامي حسين الشيخ لا يزال متاحاً)، إن قراراً يوافق عليه ويتخذ، ثم يغيّر الرئيس رأيه، فيطلب أن يُتخذ قرارٌ معاكسٌ، وعلى رئيس الوزراء أن يظهر للجمهور على التلفزيون ويبرر لماذا عُكس القرار! وعليه أن يجتهد في التبرير!! قصة الجلالي الشخصية محزنة، فهو عندما كلف، وقد كان وزيراً سابقاً، لا يستطيع أن يعتذر، فالاعتذار يعني أن يدمّر الشخص وعائلته، ولكنه أيضاً في الوقت نفسه لا يستطيع أن يمارس صلاحيات رئيس الوزراء الطبيعية التي تمارَس في أي بلد في العالم. هناك مجموعة من المكاتب، بعضها "أشباح" تتدخل في تسيير الدولة، وخاصة أشباح الأمن، التي لا تعلو سلطتها سلطة، يقول الجلالي متحسراً إن أحد أقربائه قد سافر إلى ليبيا لخوض مغامرة التسلل في البحر إلى أقرب نقطة في أوروبا، هرباً من الفقر والعوز وزوار الفجر! النظام المستبد المتكئ على الأمن يأكل نفسه بنفسه، وخاصة إن كان له رئيس مهووس بالاستحواذ المالي والسلطوي. لو قرأ بشار ما كتبه محمد جواد ظريف (صانع الملوك) والمستشار الأقرب للرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، لفهم أي توجه تتخذه الإدارة الحكومية الإيرانية. قال في مقال منشور ما معناه "يجب ألا نقاتل بدلاً من الأنظمة (العربية) التي تُعتبر صديقة، فحتى سوريا التي دفعنا فيها الكثير من الجهد والمال، عندما يذهب رئيسها إلى مؤتمرات القمة العربية يوقع على إدانة إيران ويصفها بأنها محتلة للجزر الثلاث في الخليج"! ليس أكثر وضوحاً من هذا التصريح!! وامتداداً لذلك فإن روسيا تركت الفضاء السوري مفتوحاً لضربات إسرائيل متى ما شاءت، لم يكن أحد من أعوان الرئيس بقادر على الإشارة له بتلك المتغيرات، لأنه يحب أن يسمع، كمثل أي ديكتاتور، ما يحب أن يسمع! ولم يكن جيشه أيضاً مؤهلاً للدفاع عنه، لأنه جيش في أغلبه "جيش سخرة" أي ما يعرف بالتجنيد الإجباري، والذي جعل الكثير من شباب سوريا يفر خارجها بسبب رفضه للسخرة، وفي الوقت الحرج تخلى أهل السخرة عن سلاحهم! ملخص الأمر وزبدته، أن الاستبداد، وإن نجح لفترة فلا بد أنه يأخذ أصحابه إلى التهلكة ويطيحهم، فما بالك إن تآخى الاستبداد بالغرور ونكران الواقع معاً، في عالم أصبح مفتوحاً ودون حواجز ومتغيراً دون حدود!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد