نشرت مؤخراً دراسة تشير إلى أن الإجهاد الهرموني الذي يحدث بفعل الألم مفيد في الوقاية من الأمراض، وبالأخص السرطان وأمراض القلب والخرف، ويعود ذلك إلى تحفيزه لما يسمونه بـ(الميتوكندريا)، أو الخلايا التي تزود الجسم بالطاقة، وتساعده في إزالة السموم وإصلاح الأنسجة، والسابق يعزز من مناعة الجسم ومرونته، ويمكن تنشيطه من خلال التمارين الرياضية، والصيام المتقطع، وتناول أطعمة غنية بالمركبات النباتية، كالفلفل الحار والشاي الأخضر والبروكلي، ومعه (الساونا) ودورها في تحسين صحة القلب، نتيحة للإجهاد الحراري.
الأديب مصطفى المنفلوطي قدم رؤية لافتة عن الألم، واعتبره بمثابة المحرك الأول لكل عواطف الخير والإحسان عند الناس، وقال الأديب الروسي ليو تولستوي: إن الشخص في ساعة اللذة يطفو على سطح الحياة، ولكنه عندما يتألم يدخل في عمقها، وبعض علماء الأعصاب الغربيين يعتبرون مستويات الألم ليست أكثر من وجهة نظر، تخضع لترجمة الدماغ وتقييماته، ورأيهم صحيح نسبياً، فقد أكدت دراسة أجريت على جرحى الحرب العالمية الثانية أن إحساسهم بالألم يتراجع وقد يزول تماماً، وبدون استخدام أدوية أو مسكنات، وإنما بمجرد وصول المسعفين إليهم وابتعادهم عن أرض المعركة.
بالإضافة لما سبق، أجريت دراسة عام 1995 في جامعة (وايك فورست) الأميركية على مجموعة من الأشخاص، وذلك بإيصال تيار حراري إلى أرجلهم لإحداث ألم محسوب بعناية، وبحيث يتم قياسه عن طريق الأنشطة التي تجري في الدماغ، وتحديداً أثناء الألم، وبواسطة جهاز الرنين المغناطيسي الوظيفي، وتبين في النتائج أن الذين أبلغوا بتعرضهم لتيار حراري خفيف أظهروا نشاطا دماغيا أقل تجاه الألم، رغم أنهم في الواقع كانوا يتعرضون لتيار حاد، وبالتالي فالدماغ قرر حدة وشدة الألم، بناءً على ما أبلغ به من معلومات، مع أنها لم تكن صحيحة، ووجدت الدراسة نفسها أن التوقعات الإيجابية والمتفائلة تخفف من الإحساس بالألم وبنسبة تتجاوز الـ28 %.
الأعجب أن التعبد والتأمل يعادل مفعول حقنة المورفين، ويسكن الألم بنسبة 40 %، وثبت بالتجربة العلمية دور التنفس العميق في تسكين الألم ولدرجة أنه وصل في جملة من الدراسات إلى ما نسبته 70 %، لأن التنفس العميق المتعاقب يغير في فسيولوجية الألم، وفي طريقة قراءته وترجمته من قبل الدماغ، ومع كل هذا نجد أن المبيعات العالمية لمسكنات الألم ارتفعت خلال الفترة ما بين عامي 2018 و2022 من 30 مليارا إلى 35 مليار دولار، وكشفت دراسة نشرتها في العام الجاري جامعة (بريستول) البريطانية أن واحدا من كل ثلاثة أشخاص يتناول مسكنات الألم الأفيونية، وواحدا من كل عشرة تظهر عليهم أعراض الإدمان الكامل، وواحدا من كل ثمانية يسيء استخدامها، ويوجد في أميركا وبريطانيا قرابة 20 مليون شخص يتناولون مسكنات الألم الأفيونية بانتظام.
استخدام مسكنات الألم بدأ بالأعشاب في الحضارات اليونانية والسومرية، وخصوصا نبات الخشخاش مصدر الأفيون، الذي عالج به السومريون آلام المفاصل والأسنان، وفي ثقافات أميركا الجنوبية القديمة تم التعرف على الكوكايين واستخدامه كمخدر موضعي، ولجأ الإغريق إلى توظيف شحنات الكهرباء الصادرة من (سمكة الطوربيد) عندما تكون في حالة دفاع لعلاج الألم، وفي الحضارة الإسلامية كان (الكحال) علي بن عيسي، وهو لفظ يطلق على طبيب العيون عند العرب القدامى، أول من خدر مريضاً قبل الجراحة، وفي عام 1803 قام الصيدلي (فريدريك سيرتوربز) بعزل الأفيون عن المادة الفعالة فيه لتخفيف الآثار الجانبية المترتبة عليه، وطرحها في أميركا وألمانيا باسم (المورفين)، والاسم مأخوذ من (موريفيوس) إله النوم في الأساطير اليونانية، ولوحظ أنه يفوق في تأثيره الأفيون بثلاثة أضعاف، ووصل الأمر إلى حد أن 15 % من الوصفات الطبية التي صدرت عام 1888 في مدينة بوسطن الأميركية كانت تحتوي على مستحضرات طبية إفيونية، وتم استخدامه في الحرب الأهلية الأميركية لتسكين آلام المصابين، ومن المورفين خرج (الهيروين) المنحوت من اللفظ الألماني (هيروك)، والعجيب هو استخدامه كوسيلة للتعافي من إدمان المورفين، ويعتبر الهيروين، وباتفاق المختصين، المخدر الأسوأ في العالم، وفي السبعينات الميلادية أنتج (الإسبرين) كتحوير مستساغ من (السياليسيلك)، المستخرج من المادة الفعالة في لحاء شجرة الصفصاف.
المسكّن الأكثر أمانا وفاعلية في الوقت الحالي هو (البارسيتامول) بمسمياته التجارية المختلفة، ويمكن وصفه بمضاد أو معالج الالتهابات في الجسم، وفي دراسة نشرت عام 2023، وأجراها باحثون في جامعتي سانت جورج وليفربول البريطانيتان، وجد أن 143 ألف بريطاني في أواسط العشرينات يعانون من ضعف في صحتهم العقلية بسبب تناول مسكنات الألم، وفي رأيي، يمكن استبدالها لغير مصابي ضغط الدم بكوب قهوة في حالة الصداع الحاد لتخفيفه، لأن القهوة تحتوى على الكافيين، والمسكنات كلها تحتمل الأعراض الجانبية التي تختلف باختلاف الأشخاص، حتى وإن كانت مخدرا موضعيا للاعب في مباراة كرة قدم، وتركها أفضل من الإقبال عليها، إلا في حالات الضرورة والآلام المزمنة.