: آخر تحديث

قصة هندية.. وعيد جميل

17
16
16

مؤلم ما يحدث في الهند من تضييق شديد واعتداءات على الأقلية المسلمة، وبدرجة أقل على الأقليات الأخرى، من مسيحية وغيرها، وبتجاهل واضح من الحكومة الهندية، لكني مؤمن بأنها مرحلة عابرة، ستمر سريعاً، شريطة ألا تتدخل أية أطراف خارجية، وتأجيج طرف على آخر، فتراث الهند العظيم في التسامح، الذي يمتد إلى آلاف السنين، هو المحك في النهاية، وهو الذي سيحسم الأمور لمصلحة السلم الأهلي.

* * *

سبق أن ذكرت في مقالات سابقة أن بدايات علاقتي بالهنود تعود إلى أكثر من سبعين عاماً، ترسّخت خلالها في عام 1964، عندما وجدت نفسي في بحيرة صغيرة منهم، أثناء عملي المصرفي، وتالياً في عام 1989، عندما أسست إحدى أهم مصالحي التجارية مع عدد من المواطنين الهنود، من خلفيات دينية مختلفة، وتجذرت العلاقة مع استمرار تطور الشركة، وزياراتي المتكررة للهند، وصداقاتي القوية مع مجموعة كبيرة منهم!

أخبرني موظفو الشركة، قبل أيام، أنهم بصدد الاحتفال بعيد أونام، Onam، الذي يشكّل أهمية كبيرة لأهالي ولاية كيرالا، ويحظى باحترام غيرهم أيضاً، وهو عيد حصاد الأرز ومناسبة سنوية جميلة، ومهرجان ثقافي يحتفل به بشكل مميز، ويرمز إلى عودة الملك «ماهابالي»، إلى مملكته السابقة مرة في العام، وفق التقويم الهندي القديم، ويقع غالباً بين شهري أغسطس وسبتمبر، ويعود تاريخ أونام إلى القرن الثالث الميلادي، وفيه تلعب الورود الصفراء والحمراء دوراً في تزيين البيوت، وتستمر الاحتفالات لثمانية أيام، يرتدون خلالها ملابس جديدة، وأهمها إزار أبيض للرجال، وساري كيرالا للنساء، وتتخلل ذلك احتفالات جميلة ومسابقات ورقص متنوع، وتقام الولائم بشكل مميز، حيث يقدم الطعام لعشرات الآلاف، من تسعة أنواع مختلفة من الطعام، تقدم على أوراق الموز الخضراء العريضة.

أما في الفنادق والمعابد، فقد يصل عدد ما يقدم من أطباق الكاري إلى 30 نوعاً، وعلى كل فرد، كما يقول المثل، تناول غداء «أونام»، حتى قبل أن ينام، وتتخلل المناسبة تخلّص الجميع من كل ما لديهم من أوان فخارية، واستبدال أخرى جديدة بها.

* * *

سُرّ موظفو الشركة، من الهنود، كثيراً بقبولي مشاركتهم الاحتفال بـ«أونام»، وطلبوا مني، بأدب جم، ضرورة ارتداء الإزار، وهذا ما تم، وما أن دخلت عليهم، حتى رأيت السعادة العفوية الجميلة بادية على وجوه الجميع، وعددهم يقارب المئة، وسرّهم أكثر مشاركتي طعام الغداء الكيرالي المميز، حيث بدأ الحفل بالوقوف أمام موقد نار صغير، وضع بجانب دائرة مرسومة على الأرض بعناية فائقة، مزينة بقطع من أوراق الأزهار والورود الرائعة الألوان، والتقاط الصور التذكارية.

أخبرتهم بأنني سأتكفل بدفع ثمن ما أحضروه من طعام لتلك المناسبة الجميلة، لكنهم أخبروني بأن مدير الشركة، وهو من طائفة البهرة، هو الذي تعهد، قبل سفره في رحلة عمل، بدفع الثمن. وأن مطبخ المطعم الذي يبيع ذلك الطعام الكيرالي الخاص يمتلكه مسلم سني، وأن السائق الذي أحضر الطعام بسيارته مسيحي من بومباي!

تأثرت بالفعل بهذه الاحتفالية الإنسانية، حيث كانت في أبهى صورها، في مكان صغير، من دون أية أحقاد أو عقد، وجرت بكل محبّة وإنكار ذات واضح، وتمنيت لو نمتلك شيئاً من تسامحهم، بعضهم مع بعض، بصرف النظر عن الخلفيات الثقافية أو الدينية أو المذهبية!

رأيت في ذلك اليوم قمة التسامح والتعايش الإنساني الجميل، ورأيت عظمة الهند، التي ستعود سريعاً واحة أمان للجميع.




أحمد الصراف


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد