فاروق يوسف
المؤكد أن العراقيين لا يأملون أن يكون برلمانهم المقبل أفضل من برلماناتهم السابقة. في المقابل، فإن الأحزاب الحاكمة تأمل أن تكون الانتخابات المقبلة مناسبة لتجديد البيعة. وهو ما يعني أن الوضع السياسي الراكد سيظل على ما هو عليه على رغم أنه لم يخرج بالدولة خارج نطاق فشلها. فإذا كانت لغة التوافقية الحزبية هي السائدة منذ سنة 2005 ضماناً لمبدأ المحاصصة، فإن تحويل الانتخابات إلى مناسبة لتجديد البيعة للأحزاب الحاكمة نفسها يشير إلى أن مبدأ تداول السلطة الديموقراطي قد أُلغي وصارت الانتخابات مجرد ممارسة استعراضية لا قيمة فعلية لها. ذلك لأن الشعب في الحقيقة لا ينتخب ممثليه بقدر ما يهب أصواته لممثلي الأحزاب الذين أكدت كل الدورات البرلمانية السابقة أن أحداً منهم لم يطرح مشروع قانون خدمي واحد يتعلق بتطوير البنية التحتية المنهارة أو برفع المستوى المعيشي لشعب يقع ثلثه تحت خط الفقر ويعاني معظم شبابه البطالة.
كان مجلس النواب العراقي ولا يزال واجهة لأحزاب متآلفة. تختلف على مصالحها، غير أنها تجتمع في الدفاع عن النظام السياسي القائم. وليس مستبعداً أن تكون السلطة التشريعية هي أكثر منظومات الحكم فساداً. ولو لم يكن الوضع كذلك لما تورط عدد من النواب في نزاعات شخصية مع كبار اللصوص الذين لم يعد التستر عليهم ممكناً. لقد تحولت الحصانة النيابية إلى وسيلة لاختراق القانون، بحيث صار النواب يديرون عمليات فساد مكشوفة من غير أن تتمكن هيئة النزاهة من تحويلهم إلى المحاكم انطلاقاً من حرص السلطة القضائية على استمرار الوفاق الحزبي القائم على مبدأ المحاصصة الذي يشملها.
بطل الصلح الاجتماعي لم يكن موفقاً
حينما أسقط محتجو تشرين الأول (أكتوبر) عام 2019 حكومة عادل عبد المهدي، حاول النظام السياسي وقد أحس بالخطر أن يسترضيهم بعدد من المرشحين لمنصب رئيس الحكومة، كان من بينهم محمد شياع السوداني. لقد رفض المحتجون الأسماء كلها بما فيها اسم السوداني. غير أن الأخير وجد الطريق أمامه سالكة إلى المنصب بعدما أدى التيار الصدري مهمته في خطوتين. الأولى حينما قضى على الاحتجاجات وأفرغها من محتواها بعدما ارتكب الكثير من جرائم القتل، والثانية حينما انسحب من مجلس النواب، وقد كان منتصراً، ليسلم مقاعده إلى المهزومين من أتباع الائتلاف الشيعي "الإطار التنسيقي" الذي يتزعمه نوري المالكي. لم يكن السوداني منتخباً، غير أن الاختيار وقع عليه لأنه لم يكن حزبياً يومها على رغم أنه كان دائماً جزءاً من النظام السياسي الحاكم. كان انسحابه من حزب "الدعوة" لأسباب لم يعلن عنها نقطة لمصلحته. لقد تم تسويقه بطلاً للصلح الاجتماعي فيما كان الرجل في حقيقته واجهة استطاع النظام من خلالها أن يستعيد عافيته وتتمكن الأحزاب من استعادة قدرتها على نهب المال العام من غير أن تشعر بالقلق أو الخوف. غير أن السوداني لم يكن موفقاً في أداء دوره. على سبيل المثال، فإن مبدأ المقايضة الذي اعتمده في التعامل مع اللصوص وهو مبدأ غير قانوني لم يُرجع إلى الدولة العراقية إلا النزر القليل من الأموال المنهوبة، وبقي اللصوص مطلقي السراح خارج العراق. السوداني الذي أسس "تيار الفراتين" تهيئة للانتخابات المقبلة لم يكن في حقيقته سوى أداة استعملتها الأحزاب الشيعية تمهيداً لانتخابات مبكرة قد لا يكون فيها من المحظوظين.
ليس السوداني أقل حيلة من الآخرين
هل سيصمد السوداني في مواجهة داعميه في الانتخابات المقبلة؟ ربما يعتقد البعض أن السوداني هو أقل سياسيي العراق حيلة، فقد اختير رئيساً للحكومة بسبب موقفه السياسي المستقل. ذلك ليس صحيحاً. لقد تمكن المهندس الزراعي في وقت قصير من تأليف جيش من الإعلاميين الذين يبشرون بولايته الثانية، لا في الصحف والقنوات الفضائية المحلية فحسب، بل أيضاً في مثيلاتها على مستوى العالم العربي. وبعكس سابقيه فقد سلط الإعلام عليه الضوء باعتباره باني مشاريع، غير أن مَن يتابع تلك المشاريع سيكتشف بسرعة أنها كانت وهمية أو أنها تكتفي بنصفها. وتبعاً لذلك فقد كان نصف رجل دولة ولن تتجاوز حظوظه في الانتخابات مستوى النصف مما يأمل فيه. ولأنه أصلاً رئيس وزراء غير منتخب، فإن مصيره سيكون في أيدي مَن وضعوه في المنصب، وبخاصة نوري المالكي الذي لا يزال يعتبر نفسه عراب العملية السياسية في العراق إلى أن يموت. وكما أتوقع فإن المالكي يمثل عقدة بالنسبة إلى السوداني، لا انطلاقاً من عقدة قتل الأب فحسب، بل أيضاً لأن الأب نفسه تقلقه كثافة الضوء الإعلامي الذي سُلط على صنيعته وقد كان عضواً صغيراً في الحزب الذي يتزعمه. يعرف الطرفان أن أحداً منهما لا بد من أن يخرج من حلبة الصراع خاسراً، ولا أعتقد أن السوداني بتركيبته الشخصية البسيطة سيتمكن من الانتصار على رجل الدسائس والمؤامرات الذي نجح عام 2006 من خلال تسوية أميركية إيرانية أن يزيح إيراهيم الجعفري من رئاسة حزب "الدعوة" ليكون بعد ذلك رجل العراق الأول لثماني سنوات انتهت بهزيمة القوات العراقية واحتلال تنظيم "داعش" ثلث الأراضي العراقية.
المرشح الأقوى هو الأكثر ولاءً
يردد نوري المالكي جملة يقول فيها "لولا خشيتي على العملية السياسية من الانهيار لفتحت ملفات الفساد التي في حوزتي". وليس خافياً أن ذلك التصريح إضافة إلى أنه يمثل اعترافاً بأن أطراف العملية السياسية كلها تنخر الدولة بعمليات فسادها، فإنه ينطوي على خيانة للأمانة الوطنية. غير أن تحول العملية السياسية إلى هدف في حد ذاته إنما يضع الوطن والدولة على الرف من أجل أن يستمر النظام الطائفي الذي تغيب عنه الإرادة الوطنية وتُبتذل فيه محاولات بناء دولة جديدة على أنقاض الدولة الوطنية التي حطمها الغزو الأميركي. ذلك كما يبدو أحد شروط عدم انهيار العملية السياسية. وهو ما يفسر خلوّ التكهنات المخطط لها سلفاً والتي ترشح السوداني لولاية ثانية من أي إشارة إلى الوطنية أو المواطنة أو بناء الدولة. فالمرشح الأقوى في سباق الانتخابات العراقية هو الأكثر ولاءً لنظام المحاصصة الحزبية الذي تديره الميليشيات.