د. صلاح الغول*
يمثل التقارب المستمر بين سوريا وتركيا تحولاً كبيراً في العلاقات الإقليمية. فبعد سنوات من الصراع يُبدي البلدان استعداداً متزايداً لتطبيع العلاقات، وإن كانت هناك شروط وتحديات كبيرة من الجانبين.
ويبرز النهج التركي في تصريحات علنية تعبر عن الاستعداد للتعامل مع نظام حُكم الرئيس الأسد، بالتوازي مع تطمينات لجماعات المعارضة السورية بأن دعم أنقرة لها سيستمر. فقد عبّر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عن استعداده للقاء الأسد، ووضع خارطة طريق لإحياء العلاقات بين البلدين. ولكنّ تركيا تواجه تحدياً يفرض عليها المحافظة على توازن دقيق، حيث تسعى لمعالجة مخاوفها الأمنية وقضايا اللاجئين مع الحفاظ على نفوذها لدى المعارضة السورية.
فبالنسبة لتركيا، ترتبط فرص التطبيع مع سوريا باستقرار الوضع على الحدود التركية-السورية، الذي أصبح محفوفاً بالمخاطر على نحوٍ متزايد. فتراجع شعبية «هيئة تحرير الشام» في إدلب يُقلل من قدرة تركيا على التحالف معها لصدّ هجمات الجيش السوري. كما أنّ التحركات المتزايدة نحو إقامة دولة كردية شمال شرقي سوريا تزعزع استقرار المنطقة الحدودية. كما تمثل المصالحة وعودة اللاجئين السوريين فرصة لأنقرة لتخفيف مشاكلها الاقتصادية المستمرة. كما أن موضوع الاقتصاد حافز مهم في ملف التطبيع.
أما الحكومة السورية فقد وضعت شروطاً واضحة للتطبيع، أبرزها الاحترام المتبادل للسيادة، وانسحاب القوات التركية من الأراضي السورية، ووقف الدعم التركي لجماعات المعارضة السورية. وقد عبّر الأسد عن استعداده للقاء أردوغان بشرط معالجة هذه القضايا. وجاء رد تركيا على المطالب السورية بضرورة إجراء مفاوضات بخصوص انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية، ولكن يجب تسهيل عودة اللاجئين والقضاء على التنظيمات الإرهابية قبل الانسحاب. وترى أنقرة عدم إمكانية الاتفاق مع الحكومة السورية وتجاهل المعارضة، ومن ثم تُشجع تركيا إجراء حوار بين الجانبين للتوصل إلى تسوية للأزمة السوريّة المركبة.
وهناك وساطة روسية وعراقية بين سوريا وتركيا. فلا تتوقف روسيا عن محاولاتها للتطبيع الكامل بين الطرفين منذ أواخر عام 2022، تمثلت باستضافة لقاءات لمسؤولين أتراك وسوريين. وفي منتصف يوليو/تموز 2024، أجرى المبعوث الروسي الخاص ميخائيل بوغدانوف، زيارةً إلى دمشق، وبحث مع الرئيس الأسد عودة العلاقات السورية-التركية، ضمن مبادرة تشمل الحفاظ على وحدة وسلامة الأراضي السورية، وضمان أمن وسلامة الحدود التركية، وصياغة مقاربة مشتركة لمكافحة الإرهاب، والتزام تركيا بالانسحاب من الأراضي السورية، والعمل على حل قضية اللاجئين والقضية الكردية. ثم حط المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتيف مطلع شهر أغسطس/آب الجاري في أنقرة، والتقى نائب وزير الخارجية التركي، نوح يلماز، بهدف التشاور حول سوريا. ويُذكر أنّ زيارة الرئيس الأسد إلى موسكو، في 25 يوليو 2024، تناولت قضية التطبيع التركي-السوري.
وتُشارك الإمارات، التي بذلت جهوداً طويلة توجت بعودة سوريا للجامعة العربية، روسيا في رعاية التطبيع السوري-التركي. كما يقوم العراق بدور الوسيط أيضاً. وفي هذا الصدد، أعرب رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، عن التزام حكومته بالتوسط في المصالحة بين تركيا وسوريا.
وهناك العديد من التداعيات المحتملة للتقارب بين البلدين على الأزمة السورية والمنطقة. فنجاح التطبيع يمكن أن يُسهم في تحقيق الاستقرار الإقليمي. كما أنه قد يُسهل عودة اللاجئين السوريين من تركيا، التي تُعد قضية سياسية داخلية كبرى بالنسبة لأردوغان. ولكن ذلك يمكن أن يؤدي إلى تهميش جماعات المعارضة السورية، وزيادة تعقيد جهود إيجاد حل سياسي أوسع للأزمة السورية.
وعلى المستوى الإقليمي، قد يؤدي التقارب بين سوريا وتركيا إلى إعادة تشكيل التحالفات، ويمثل تحولاً في نهج تركيا تجاه المنطقة، وربما يقرّبها أكثر من الموقفين الروسي والإيراني بشأن سوريا. وهذا قد يؤثر على المشهد الجيوسياسي الأوسع، بحيث يعقّد علاقات تركيا مع الولايات المتحدة وحلف الناتو، ويؤثر على علاقات تركيا الإقليمية. وعلى سبيل المثال، قد يؤدي التطبيع التركي-السوري والتعاون المتزايد بين العراق وسوريا إلى تشكيل مثلث للتكامل الاقتصادي عراقي-تركي-سوري.
ولكن ما زالت هناك عقبات كبيرة في طريق التطبيع الكامل بين تركيا وسوريا؛ فوجود القوات التركية في الشمال السوري، ودعمها تنظيمات المعارضة السورية، والقلق المزمن الذي تسببه الإدارة الذاتية الكردية لشمال وشرق سوريا وجناحها العسكري المتمثل في «قوات سوريا الديمقراطية» المصنفة إرهابية من قِبَل تركيا... كلها تحديات تتطلب مفاوضات متأنية وتنازلات محتملة من كلا الجانبين. علاوة على ذلك، هناك معارضة داخلية للتقارب في كلا البلدين؛ خاصة من جانب اللاجئين السوريين والمعارضة في تركيا، ما قد يعقّد العملية. وهناك تحدٍ آخر يتمثل في تهديد تركيا بالقيام بعمل عسكري إذا أجريت الانتخابات المحلية الكردية، الذي من المرجح أن يؤدي لترسيخ الوجود العسكري التركي في سوريا، ومن ثَمّ تعقيد عملية التطبيع.
والخلاصة أننا أمام مسار طويل ومعقد سيبقى عالقاً لفترة من الزمن في أروقة اللجان التنقية التركية والروسية والسورية، التي ستتحاور فيما بينها للتوصل إلى صيغة مرضية للجميع، مع الأخذ بعين الاعتبار العوامل المؤثرة على المسار، مثل وصول إدارة أمريكية جديدة إلى البيت الأبيض، وموقفها من شرعية الرئيس الأسد والإدارة الذاتية الكردية.
*متخصص في العلاقات الدولية والقضايا الجيوسياسية