طغى الارتباك على أروقة قاعات الاحتفال بالذكرى 75 لتأسيس حلف شمالي الأطلسي (الناتو)، في واشنطن، وتحوّلت قمّة دول الحلف إلى مناسبة لاستعراض المخاطر التي تواجه المجتمعات الغربية جراء تزايد التهديدات الروسية – الصينية، من جهة، ومن جهة أخرى، بسبب الاضطرابات السياسية التي تعيشها الدول الأعضاء – لاسيما الأوروبية منها – والناتجة عن صعود اليمين المُتطرف، كما من جرّاء خوف هذه الدول من وصول دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة في الخريف المقبل، لأن لترامب وجهة نظر خاصة بكلفة الأمن في أوروبا، وهو يدعو القارة إلى تحمُّل أعباء مالية دفاعية إضافية.
وقد عبّر حراك رئيس وزراء المجر، فيكتور أوربان، الذي شارك في القمة خير تعبير عن هذا الارتباك، فهو التقى مع الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين، والصيني شي جين بينغ، قبل وصوله إلى واشنطن، كما غادر قاعة المؤتمر في 11 يوليو/ تموز فور انتهاء أعمال القمة، وقصد فلوريدا للاجتماع بصديقه المرشح، دونالد ترامب، قبل أن يتعرض لمحاولة الاغتيال، وكان أوربان قد تجنّب لقاء الرئيس جو بايدن، خلال انعقاد القمة.
لا يمكن إخفاء الاضطراب الذي سيطر على مداولات قمة «الناتو»، بينما كان الأمين العام المُنتهية ولايته ينس ستولتنبرغ، يطمح إلى أن تكون الذكرى مناسبة لتحقيق اندفاعة قوية لمسيرة الحلف، نظراً للمخاطر المؤكدة التي تواجه الدول الأعضاء. في المقابل؛ لا يمكن التقليل من أهمية النتائج التي توصَّل إليها المجتمعون، رغم الخلافات، وأهمها الإعلان عن مساعدة أوكرانيا بمبلغ 43,28 مليار دولار في العام المقبل، ونشر صواريخ بعيدة المدى على الأراضي الألمانية، ابتداء من عام 2026.
وتبنّى الحلف عقيدة جديدة تتناقض كلياً مع العقيدة التي أقرّتها قمة لشبونة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2010. فحينها شارك الرئيس الروسي، ديمتري مدفيديف، كضيف، وألقى كلمة أمام المؤتمرين، وذكر البيان الختامي الصادر عن القمة حينها: «إن الحلف لا يعتبر روسيا خصماً، وهو سيتعاون معها لحفظ السلام العالمي»، بينما كانت التحديات الناجمة عن الإرهاب، والملفين الإيراني والأفغاني، تسيطر على مداولات المؤتمر.
العقيدة الأطلسية الجديدة؛ لم تخفِ كون روسيا تشكِّل التهديد الأول لدول الحلف، وتعاونها المتزايد مع الصين، وكوريا الشمالية؛ يسبب قلقاً كبيراً، وهو يهدِّد الاستقرار في أوروبا، والعالم، كما أكدت الكلمات التي ألقيت في المؤتمر. والواضح أن «الناتو» قرر الانغماس أكثر في مسار الأحداث الأوكرانية، وفي مجريات الأوضاع في شرق وجنوب آسيا، ولم تعُد مسألة عضوية أوكرانيا في الحلف مستبعدة كلياً، كما كان عليه الحال، في العام الماضي؛ بل أصبحت خياراً مُحتملاً، برغم الصعوبة التي تواجهها، لأن بعض الدول في الحلف لا توافق على هذا الانضمام، خصوصاً المجر وتركيا، والعضوية الجديدة في الحلف تحتاج إلى موافقة كل الأعضاء.
وعلى الضفة الأخرى من الحراك؛ تبدو الدول الأوروبية في حالة من القلق الواسع على المستقبل، بسبب تصريحات المرشح الرئاسي الأمريكي، دونالد ترامب، الذي قال إنه «سينهي حرب أوكرانيا، خلال أسابيع، إذا فاز في الانتخابات القادمة»، وهو يُهدد الدول الأوروبية التي لا تساهم بما يكفي في موازنة الحلف المالية، بالتخلي عن حمايتها، كما يتعاون مع رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان الذي لا يخفي صداقته للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. بينما تتصاعد قوة ونفوذ الأحزاب الأوروبية التي ترغب في تسوية النزاع مع روسيا، خصوصاً في ألمانيا، وإيطاليا، وفرنسا، لا سيما منها الأحزاب اليمينية التي تتطلع إلى حماية المصالح القومية الأوروبية، بعيداً عن التجاذبات الدولية الكبرى.
من الواضح أن العالم أمام نظام دولي جديد، يعتمد على الفوضى، وينقصه الكثير من أدوات التعاون والتنسيق. وهناك حرب باردة جديدة مختلفة عمّا كان عليه الحال قبل عام 1990، ففي ذلك الحين كانت هناك اتفاقيات دولية مهمة قائمة، وكان لها قدر كبير من الاحترام، ومنها خصوصاً اتفاقية (نيو ستارت) التي تتحدث عن الحدّ من انتشار الأسلحة النووية، ومعاهدة الحدّ من القوات المسلحة التقليدية في أوروبا، وقد انسحبت روسيا منهما، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية انسحبت من عضوية محكمة الجنايات الدولية الدائمة، ومن معاهدة حظر التجارب النووية، ومعاهدة الأجواء المفتوحة الموقعتين مع روسيا، وذلك يخفي أخطاراً جمَّة على الاستقرار الدولي، بطبيعة الحال.
وإذا كان قادة «الناتو» نجحوا في تعيين أمين عام جديد خلفاً لستولتنبرغ، وأكدوا ضرورة رفع كل الدول لقيمة إنفاقها على الدفاع إلى 2 في المئة من الناتج المحلي، على أقل تقدير؛ لكن القرارات الأخرى قد لا تكون قابلة للتطبيق الفوري عند العديد من الدول الأعضاء، لا سيما موضوع زيادة كمية إنتاج القنابل المتطورة، وتخزينها، كما في مضاعفة صناعة المعدات العسكرية المتطورة، ذلك أن بعض الدول تعاني ركوداً، أو أنها لا تملك من التكنولوجيا المتطورة ما يكفي لحقيق هذه الغاية التي أوصت بها مقررات القمة.
وتبدو دعوة اليابان، ونيوزيلندا، وكوريا الجنوبية، وأوكرانيا، والاتحاد الأوروبي إلى القمة، وهي دول غير أعضاء؛ لها دلالات واضحة على التوجهات الجديدة للحلف، وأقل ما يمكن أن يُقال في هذا الإطار: إن الحلف ينظر إلى تطور التعاون بين روسيا والصين بعين القلق، كما لعلاقات الحليفين الآسيويين مع كوريا الشمالية التي أصبحت دولة نووية عسكرية متطورة.