العنوان الذي وضعته مجلة «ذا إيكونومست» لغلافها، بعد المناظرة بين الرئيس الحالي جو بايدن، والسابق دونالد ترامب، أزعج الديمقراطيين، فقد وصفت المجلة العريقة والرصينة الرئيس بايدن ب«العاجز»، حيث بدا الرجل متعباً، ويكاد في بعض الأحيان يتعثّر في نطق الجمل، وهو المعروف بزلات لسانه الكثيرة، خلال المؤتمرات الصحفية، أو حتى في بعض محادثاته مع قادة آخرين.. ولكن الآن بعد أن أعلن بايدن انسحابه من معركة الرئاسة، فإن كل شيء تغير، وصار الحديث يتركز على من يخلفه كمرشح عن الحزب الديمقراطي لمواجهة المرشح الجمهوري دونالد ترامب
في المقابل، لم يخرج خطاب دونالد ترامب عمّا كان متوقعاً، فقد صوّب سهامه على المرشحة المحتملة نائبة الرئيس كامالا هاريس التي استسهل هزيمتها في الانتخابات إذا ما رشحها الحزب الديمقراطي.
إن ظاهرة ترامب كرئيس للجمهوريين، لا تبدو أقل سوءاً من اختيار الديمقراطيين، فقد شكّلت الولاية الأولى لترامب نموذجاً للقائد المخلّص من جهة، ونموذجاً لتحويل السياسة من منطقها الكلّي إلى منطق الصفقات التجارية المحضة، من جهة ثانية، وكلا النموذجين، لا يشكل امتداداً طبيعياً للنماذج القيادية والقومية التي تمثّل الحزب الجمهوري، التي وصلت إلى سدّة الرئاسة منذ إبراهام لينكولن، الذي وحّد الولايات الشمالية والجنوبية، وحرّر العبيد، مروراً بأسماء كبيرة، من مثل دوايت إيزنهاور، الذي قاد قوات الحلفاء للانتصار في الحرب العالمية الثانية، ورونالد ريغان، الذي كانت سياساته حاسمة في تفكيك الاتحاد السوفييتي، وإنهاء «حلف وارسو».
إزاء هذا الوضع الذي يشهده السياق الانتخابي الرئاسي، بين مرشّح ورئيس سابق، يبني سياساته انطلاقاً من عقلية التاجر، ومرشح لم يتم اختياره بعد، هناك أسئلة مهمة واستراتيجية، تطرحها العديد من الأصوات الرصينة داخل الولايات المتحدة، حول مستقبل الإمبراطورية، ليس تجاه سياسات قادتها في الملفّات الخارجية فقط، بل أيضاً تجاه حالة الاستقطاب الداخلي، الذي يشير إلى حالة انقسام كبيرة في المجتمع الأمريكي، خصوصاً بعد «الموجة الترامبية»، التي دفعت نحو خطاب قومي، يضع «أمريكا أولاً»، ويجعل من الشخص/ القائد، عنواناً للبرنامج السياسي، وهو أمر كان قد عرفه الكثير من الأحزاب القومية المتطرفة في أوروبا، كما في ألمانيا الهتلرية، أو في إيطاليا بينيتو موسوليني، وأدت إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية.
هذا التراجع الذي يشهده أداء الحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة، لا يبدو ظاهرة خاصّة تشهدها الإمبراطورية، إذ إنها تبدو اليوم، ظاهرة يمكن تعميمها بشكل واسع، نسبياً، في المنظومة الغربية، ففي السنوات الأخيرة، يبدو واضحاً أن هناك أزمة قيادة في بلدان أوروبية رئيسية (ألمانيا، فرنسا، إيطاليا)، وهي البلدان التي تشكّل العمود الفقري للاتحاد الأوروبي من جهة، ومن جهة ثانية، تعدّ ذات إسهام تاريخي في بلورة الأساس المفهومي ل«الغرب»، بوصفه منظومة اقتصادية سياسية ثقافية، وليس الصعود الحالي لقوى اليمين الشعبوي في هذه الدول الثلاث، مجرد ظاهرة آنية، بل هو مؤشر، لا يمكن تجاهله، في سياق وجود مشكلات وتحدّيات عدة وقوية، تواجهها المنظومة.
هناك ثلاثة مقوّمات أساسية، تجمع أمريكا والبلدان الرئيسية في المنظومة الغربية، تتمثّل في النظام الاقتصادي الرأسمالي، والليبرالية، والديمقراطية، وقد استفادت مجمل المنظومة الغربية من مواجهتها مع منظومة نقيضة، كان يمثّلها الاتحاد السوفييتي السابق، بوصفها النقيض الموضوعي، الأكثر كفاءة، والأكثر جاذبية، لقسم كبير من سكان العالم، خصوصاً أن النموذج السوفييتي/ الاشتراكي، فشل في تحقيق الشعارات التي رفعها، وفي معظم الحالات، ذهب واقعياً إلى حالة مناقضة لتلك الشعارات.
الأساس الأيديولوجي الذي أسهم في صعود أمريكا وأوروبا (المنظومة الغربية)، خسر عدوّه التاريخي، وتفتقد المنظومة الغربية اليوم في صراعها مع الصين، أو حتى روسيا، السند الأيديولوجي، الذي كان يمنحها، من وجهة نظرها، ومن وجهة نظر مناصريها، قوة أخلاقية، ما يجعل هذه الصراعات مكشوفة، بوصفها صراعات على المكانة، والنفوذ، والهيمنة على السوق الدولية، لكن هذا التراجع للعامل الأيديولوجي، حمل معه مشكلات جديدة، فالدول، خصوصاً الكبيرة والفاعلة، ليست مجرّد مؤسسات، بل هي إضافة لها، منظومة أيديولوجية، تعمل باتجاهين، الداخل/ القومي، والخارج/ العلاقات الخارجية.
ما تعانيه اليوم الإمبراطورية الأمريكية، ومجمل المنظومة الغربية، ليس تراجع المكانة العسكرية والاقتصادية في العالم، فما زالت، بالإحصاءات والأرقام، في المواقع المتقدّمة عالمياً، بل حدوث تحولات في بنية وشكل العامل الأيديولوجي الذي يسهم في تحديد آليات التنافس السياسي الداخلية، أو في بناء تصورات حول الدور والمكانة الدوليين، إذ يعاني النموذج الليبرالي الديمقراطي من تحوله إلى الشكلانية، على حساب المضامين الأساسية، داخل مجتمعاته، كما أنه أصبح محطّ شك عالمي، بعد تخليه المكشوف عن مبادئ الحرية والديمقراطية، في العلاقات الدولية.