بعد سهرة دراسية، ذهب جي دي فانس، شريك دونالد ترمب الحالي في البطاقة الانتخابية، إلى مطعم وجبات سريعة، برفقة عشرات من زملائه. كان وقتها طالباً في عامه الدراسي الأول بجامعة ييل المرموقة. لاحظ وهم يهمون بالانصراف من المطعم أنهم حولوا المكان إلى مزبلة؛ عظام دجاج وبقايا طعام وصودا مسكوبة على أسطح الطاولات والأرضية. لم يستطع أن يترك المكان لعامل فقير في نهاية يوم عمل طويل، فقرر أن يبقى للمساعدة. من بين كل الحضور لم يشاركه القرار إلا زميل آخر اسمه جميل.
استقر هذا المشهد في ذاكرته، ودوَّنه في سيرته الذاتية من باب التعجُّب لا الإعجاب. سيرته تحمل اسم «Hillbilly Elegy»، كلمة «هيلبيلي» تُستخدم في السياق الأميركي بمعنى «الحثالة البيضاء»، أي الفقراء البيض الذين يعيشون في مناطق بعيدة عن التحضُّر. والقصة تبدأ من هروب جدته من بيت أهلها بعد أن حبلت وهي في الثالثة عشرة من عمرها، ثم أمه متعددة الإدمان، متهورة الزيجات. وتنتهي وقد حصل على وظيفة مرموقة وتزوج بأوشا، التي رأيناها معه على منصة مؤتمر الحزب الجمهوري.
ما يجمع بين فانس وجميل أن كليهما من أصول فقيرة، دخل جامعة ييل النخبوية بمنحة تفوق. لكن قصة فانس ليست خطاً مستقيماً ممتداً من الطموح والإصرار. ليست قصة فتى نابغ كزهرة في مستنقع. أبداً. كانت أمه أيضاً متفوقة في مدرستها وتعثرت في الطريق. وبدأ هو عادياً، ثم ولى سلوكه شطر الانحراف.
قصة فانس عن الاختيار.
اختار في لحظة حاسمة الخروج من فوهة الدوامة، والانتقال إلى العيش مع جدته. لم تكن تملك أكثر من أمه، وذاق معها فقراً متسولاً، لكنه تعلم منها أن هناك طريقاً واحداً فقط للخروج منه. عليه أن يختار اختياراً صائباً عقب اختيار صائب. عليه أن يحدد ماذا يريد. وأن يلزم الخطوات البديهية التي تؤدي إلى ما يريد. عليه أن يتعامل مع التحديات الطارئة في كل مرحلة، لأن الفقر ليس مجرد عوز مادي يتجاوزه المرء، بل نموذج معرفي، رؤية للحياة والممكن فيها والمستحيل، وتعريف للمألوف والخارج عنه. في مشهد آخر من القصة تعنفه أمه جسدياً أكثر من العادي، فتطلب جارته الشرطة استجابة لاستغاثته. حين يرى فانس أمه مقيدة يقول للشرطي إنها لم تفعل شيئاً، فيقول له الشرطي: «ربما تعتقد أن هذا عادي لأنك نشأت فيه. لكنه ليس كذلك».
قصة جي دي فانس من الفقر إلى التفوق قصة عن الاختيار الأوسع من توزيع الملامات على الآخرين، والشفقة على النفس، والتعويل على الحظ أو العطايا. يؤرخ فانس في مذكراته لسنة ميلاده بالانتخابات الرئاسية التي تحول فيها جده من الديمقراط إلى الجمهوريين. أدرك أن الكفالة تطمر الأفراد في الكفاف، لكن المسؤولية والفرصة تدفعان إلى اختيارات أفضل، فقرر عام 1984 أن ينتخب رونالد ريغان في ولايته الثانية. وتلك فكرة أساس في رسالة اليمين السياسي، ومحور رسالة ترمب. غير أنها أصدق على لسان فانس ابن الفقراء منها على لسان ملياردير بالوراثة، مثل ترمب.
في الانتخابات الماضية، اختار ترمب مايك بنس شريكاً يقدمه إلى مجتمع أميركا المحافظ. هذه المرة عادل سنه المتقدمة بشاب في الأربعين، وعادل ثراءه برفيق من فئة منسية تشبث بالحلم ففاز. باختيار ترمب شخصاً طموحاً من الطبقة العاملة البيضاء ضرب عصافير بحجر واحد؛ احتضن تلك الطبقة الفقيرة المنسية التي تحرك السياسة الغربية نحو اليمين حالياً. وميَّز نفسه عن فكرة التركيز على التنوع العرقي كشهادة جدارة، ذلك التمييز الذي لا يفيد الفقراء إن كانوا بيض البشرة.
لكنه في نفس الوقت لم يغفل المسألة العرقية تماماً؛ كون زوجة فانس من أصول هندية. فكأن حضورها رد خفي لطيف هامس على اتهام ترمب بالعنصرية البيضاء. لا بد أن نضع هذا في مقارنة مع معايير اختيار بايدن لنائبته كامالا هاريس.
في اختيار ترمب رسالة إلى فئة أخرى يريد ترمب أصواتها. فانس بدأ علاقته بترمب منتقداً، ثم تحول عبر السنوات حتى صار الآن شريكه في قمرة القيادة. ولا شك أن المرشح الرئاسي يأمل أن يؤثر ذلك في قطاع لا بأس به من أعضاء الحزب الجمهوري ومن الناخبين المتأرجحين.
كل تفصيلة من مسوّغات الاختيار تبدو عادية.
لكن العثور على شخص واحد يجمع هذه الميزات إلى جانب الكفاءة والشخصية والحضور والخبرة العسكرية قرار خبير، بعد تفتيش بصير التقط هدفاً محدداً، وعلامة على ترمب أكثر نضجاً سياسياً، يقرأ الصورة ويعرف كيف يكملها.