اقتربت الحرب في السودان من نهاية عامها الأول بعد أن اندلعت بين قائدين عسكريين كانا يتقاسمان السلطة والنفوذ، وتسببت بأوضاع مأساوية تشمل المجاعة والنزوح والعنف الجنسي والنزاعات العرقية المسلحة، وفق خبراء وموظفي إغاثة، في غياب أي مخرج في الأفق.
وتقول الأمم المتحدة إن السودان الذي كان، حتى قبل الحرب، أحد أفقر بلدان العالم، يشهد "واحدة من أسوأ أزمات النزوح في العالم وهو مرشح لأن يشهد قريبًا أسوأ أزمة جوع في العالم"، هذا الوضع هو النتيجة الطبيعية لبلد طوى قبل شهر فقط سنته الأولى من الحرب التي تفجرت في 15 نيسان ( أبريل) 2023 بين رجلي النظام عبد الفتاح البرهان قائد الجيش، ونائبه محمد حمدان دقلو الملقب بـ"حميدتي" قائد قوات الدعم السريع، مخلفة آلاف القتلى و ملايين النازحين والمهجرين، حيث تقدر تقارير أممية أن ستة ملايين ونصف سوداني اضطروا إلى النزوح من ديارهم، بينما لجأ مليونان ونصف آخرون إلى دول الجوار، وسط انهيار كامل للدولة التي لم تعد قادرة على تأمين أبسط الحاجيات والخدمات للشعب السوداني الذي يعاني قرابة نصفه من المجاعة، كل هذه التراجيديا تمر في شبه صمت وعدم اهتمام دولي في ظل أزمات إقليمية أخرى لها انعكاسات أكثر على مصالح الدول الكبرى، علما أن استمرار الحرب في السودان بالوثيرة ذاته من شأنه أن يحوله إلى يمن ثاني خاصة في ظل سعي القيادة الإيرانية إلى توسيع قدرتها على تهديد التجارة العالمية التي تعبر البحر الأحمر من خلال الرهان على أحد طرفي الحرب، وهما معاً وجهان للمؤسسة العسكرية.
استمر الحكم العسكري في السودان حوالي نصف قرن من تاريخ البلاد الممتد منذ لحظة الاستقلال عن مصر وبريطانيا سنة 1956، فقد عجزت النخب السودانية في بناء دولة مدنية مستمرة، وبديلاً عن ذلك فتحت البلاد على مصراعيها لحكم العسكر وفق خصوصيات سودانية، انطلق ذلك بعد انقلاب الفريق إبراهيم عبود عام 1958 مرورا بالانقلاب العسكري الثاني مع جعفر نميري في أيار(مايو) 1969، ثم الانقلاب الثالث مع عبد الرحمان سوار الذهب في 6 نيسان(أبريل) 1985 ثم الانقلاب الرابع مع عمر حسن البشير في 30 حزيران(يونيو ) 1989 فالانقلاب الخامس مع عبد الفتاح البرهان وحميدتي في 11 نيسان 2019، وصولا إلى الانقلاب الثاني للبرهان وحميدتي وهذه المرة على المكون المدني في شخص رئيس الحكومة عبد الله حمدوك يوم 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2021. غير أنه إذا كانت انقلابات عبود ونميري وسوار الذهب والبشير نتيجة للصراعات التي قامت بين تيارات سياسية وفشل تحالفاتها سواء فيما بينها أو بينها وبين الجيش، فإن أحداث نيسان 2019 كانت التفافاً من المؤسسة العسكرية على مطالب مدنية الدولة الذي رفعته القوى المدنية في شوارع الخرطوم، وبالتالي تمت التضحية بالبشير وبعض المقربين منه لاستمرار الحكم العسكري وإن لفترة انتقالية إلى حين ترتيب الأوضاع الجديدة، لكن تبقى قوات الدعم السريع التي أظهرت ازدواجية مؤسساتية في المؤسسة العسكرية، أبرز عامل ساهم في تعقيد مخطط إدامة الحكم العسكري وانقسامه، وهذه الوضعية يعرفها السودان لأول مرة، أي أن يكون هناك طرفان عسكريان شريكان في السلطة وهو ما يجعل الوضعية الحالية معقدة جداً بحيث لا يمكن مقارنتها مع الوضعيات السابقة، سواء عند انفراد المؤسسة العسكرية بالحكم في عهد عبود ونميري وسوار الذهب أو عند لجوء البشير بتحالف مع الإخوان وبعض المليشيات القبلية إلى تشكيل قوة شبه عسكرية تدعى قوات الدفاع الشعبي للمساهمة في مواجهة الحركة الانفصالية في الجنوب، وهو ما كرره البشير في حرب دارفور من خلال تأسيس قوات الدعم السريع التي انقلبت عليه بدافع من الطموح السياسي لقائدها حميدتي الذي كان البشير يدعوه حمايتي...
تميز الحكم في السودان بما يمكن تسميته بتداول الأزياء المدنية والعسكرية، إذ ينتقل الحاكم العسكري بعد الانقلاب من عسكري إلى حاكم بزي مدني وهو أمر شبيه بما عرفته موريتانيا في أكثر من مرحلة، معنى ذلك أن الانقلابات العسكرية كانت في الغالب، مجرد آلية في يد "السياسيين" وهو ما دفع أحد الكتاب السودانيين إلى القول بأن السودان لم تعرف أبداً انقلاباً عسكرياً بالمفهوم التقليدي، بل إن الانقلاب العسكري فيها كان مجرد طبيعة ثانية لفشل العملية السياسية الناشئة عن تناقض مصالح عدد من القوى الاجتماعية، إ
ذ إنه بعد كل انقلاب عسكري كان النظام الجديد يبحث عن قاعدة اجتماعية وذلك بالتحالف مع تيارات سياسية حسب الحاجة وما تقتضيه المرحلة، إلى حين نضوج التناقضات وتفجرها، نستحضر هنا التحالفات المتناقضة لجعفر نميري من أقصى الحزب الشيوعي إلى الإسلاميين، وتحالف البشير مع الترابي إلى حدود 1998.
المأزق الذي عرفته النخب السودانية منذ الاستقلال إلى اليوم، هو فشلها في بناء الدولة الحديثة القائمة على القانون والديمقراطية، بحيث كان بإمكان الدولة أن تشكل بوتقة تنصهر فيها مكونات المجتمع السوداني المتعددة، يقول الكاتب السوداني محمد أبو القاسم في كتابه "السودان المأزق التاريخي" بأن السودان يعيش وحدة سطحية في تنوع عميق، فالبلد فيه 597 قبيلة قبل انفصال الجنوب، لذلك فأمام عجز بناء الدولة الحديثة، شكلت البنية القبلية والتحالفات المناطقية بديلاً عن الدولة، إذ استطاعت توحيد مجموعات عرقية ولغوية ودينية، دخلت مواجهات عسكرية مع الحكم المركزي، بل إنها في حالة الجنوب ذي الأغلبية المسيحية وبعد حربين أهليتين، انتهى الأمر بالانفصال وهو وضع ممكن أن يتكرر مستقبلاً خاصة في ظل الوضع الحالي سواء في دارفور أو في قبائل النوبة في الشمال وغيرها، والأخطر من كل ذلك هو تحول السودان إلى مجال حيوي للجماعات المتطرفة وتعاظم نفوذ مسلحي فاغنر الروسية في منطقة الساحل والصحراء التي أكملت انهيارها المؤسساتي مع ما يعرفه السودان اليوم من انقسام. لذلك وعبر مراحل مختلفة في تاريخ السودان المعاصر، كان البعض ينظر إلى مؤسسة الجيش على أنها المؤسسة الوحيدة والحقيقية في الدولة وبالتالي كان الرهان عليها في أكثر من مرة للعبور بالبلاد من حالات الخطر القصوى؛ لكنها فشلت في ذلك، وفشلت في أن تكون آلية مؤسساتية لإحداث انتقال ديمقراطي حقيقي.