يُعرف الشيء بنقيضه؛ الحروب تقوي حاجتنا للسلام، وعندما جاءنا الضيف الثقيل واللئيم كوفيد 19، كان يخبئ شهيتنا للتقارب الاجتماعي ونزع الكمامة لتنشق الهواء دون خوف. الموت يقوّي وعينا للحياة باعتبارها أعلى قيمة وثمن لدى الإنسان، والموت بكونه الثيمة الأصعب في معادلة الحياة، فقد أصبح نقطة تجمّع تاريخي في سؤال الفلسفة والأدب وانشغالات علوم الفسلجة وبقية الاختصاصات العلمية والطبية كعلم التشريح وعلم الخلية وعلوم الحياة الأخرى، حيث تشتغل تجاربها الحديثة على فكرة موت الخلايا وإمكانية إعادتها إلى الحياة، في واحدة من تحديات الطبيعة التي درج عليها الإنسان منذ وجد على الأرض ورحلته التسجيلية الثابتة ما بين الولادة والشباب ثم الكهولة والموت.
فكرة الانتصار على الموت توقف عندها الأدب والفن، بدءاً من أسطورة جلجامش إلى آثار الحضارات السومرية والبابلية والآشورية في بلاد الرافدين، تلونت فكرة البقاء وتحدي موضوع الموت في قصائد الشعراء وعالم الرواية والمسرح وصراع الآلهة والنقوش القديمة؛ حوار لم ينقطع وأسئلة تتكرر في جميع الأزمنة لتكثف خلاصات معاني مهمة ابتداءً من أسطورة جلجامش حتى آخر قصائد الحداثة للشعراء في العالم، الخلود للفضيلة فهو الضامن الأكيد للخلود.
مباغتة أدبية - فكرية جميلة واستثنائية يأخذنا إليها الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو، الحائز على جائزة نوبل 1998، بروايته الغرائبية "انقطاعات الموت"، في حبكته المثيرة بانقطاع الموت عن زيارة البشر، عندها يعطل عمل المدافن وتغلق الكنائس ويتوقف عمل المؤسسة الدينية بعد أن تفقد دورها بغياب الموت، كذلك تتوقف أعمال مؤسسة الجنائز، ويصيب الحكومة قلق كبير جراء هذه الظاهرة بعد أن تمتلئ المستشفيات بالمرضى والسجون باللصوص وتستمر الحياة فاقدة لأيّ معنى بغياب الموت، حتى يصاب الناس بالضجر والملل من حياة تضج بالفوضى والنزعات الغرائزية، وعندها يتمنون عودة الموت.
إقرأ أيضاً: قصة حرب معلنة!؟
تخيلت الحالة عراقياً أن يموت أو ينقطع الفساد في بلادي، عندها تغلق أحزاب الإسلام السياسي أبوابها، وكذلك الأحزاب الديمقراطية المزيفة بعد أن يتوقف نهب المال العام من قبل تلك الأحزاب، ويمتنع الانتهازيون عن الترشح للبرلمان، وتموت الرغبة لدى الأكثرية بوظيفة وزير أو مدير عام، وينتهي عمل الميليشيات والاغتيالات بكاتم الصوت، والجماعات المسلحة تتوجه للمعامل والحقول لتردد أناشيد العمل والسلام، وتغلق المحاكم أبوابها والحكومة توزع الثروات بعدالة بين الجميع دون تمييز طائفي، ولن يبقى جائع يبحث عن طعامه بمكب النفايات، ولا سجين كتب مقالاً ضد الحكومة أو إحدى الشخصيات السياسية. يعود المواطن عراقياً بلا انتماءات طائفية أو عرقية، وتشرق شمس الحرية في البلاد، ترجع السينمات والمسارح والمكتبات لتسطع أنوارها، ويسمح للموسيقى والغناء بالعودة العلنية للحياة في بلاد الرافدين، منشؤها الأول!
إقرأ أيضاً: الدكتاتور المتمرد صدام حسين يتناسل عراقياً
الأحلام تخفف كثيراً من ثقل الواقع ومآسيه المتزايدة محلياً وعربياً، فأصبح لكل عربي حلمه في بلاده، لكن أبعد تلك الأحلام تحققاً أن ينقطع عنها الموت، بل أن بعض الشعوب العربية ربما لا تقبل بهذا الحلم، لأنها تعيش ألواناً متعددة من الموت اليومي غير المكتمل، كما في السودان وفلسطين وسوريا، ما يجعلها ترحب بموت واقعي يضع نهاية لمأساتها.
وعودة إلى موضوعنا العراقي، فإذا كان أبطال رواية ساراماغو قد ضجروا من حياة بلا موت، فهل يضجر ساسة العراق من انقطاع الفساد عن حياتهم؟ الجواب نعم سوف يضجرون، وربما يقومون بثورة من أجل إعادة الفساد للحياة!