في القرن العشرين كانت الموضة في العالم النامي الحديث عن التحوُّل إلى التصنيع، وحوار وخطابة ونقاش ومؤتمرات ووعود وخطط خمسية، ثم قليل القليل. زاد عدد المصانع، ولكن بقيت بنية الاقتصاد ريعية.
الثورة الصناعية بدأت في منتصف القرن الثامن عشر، في مجتمع تعددت بالفعل نشاطاته الاقتصادية، وزاد دور التملك والطموح الفردي فيه. وكانت متوافقة مع أفكار «ثورية» عديدة، أبرزها مسؤولية الإنسان عن أفعاله، والمواطَنة، وحرية الترقي.
قبل هذا العصر كان المولود مزارعاً يموت مزارعاً والمولود نبيلاً يموت نبيلاً. وكان الثراء في دعاية الفقراء مذموماً، والعدل متحققاً في الآخرة فاطمئنوا، والرزق لا الكسب يحدد حظ الإنسان من الثروة حسب مشيئة الله.
عملية التفاعل بين تعدد النشاطات الاقتصادية وغربلة الأفكار الاجتماعية والفردية أنتجت تغيرات جمة؛ أفرزت الثورة الصناعية والتفكير الاقتصادي الرأسمالي، وتلك أفرزت تعدُّد مراكز القوى ومن ثم الديمقراطية.
خلاصة ما سبق أنه بعد قرنين من الزمان، والوعود، والأمنيات، ظلَّت بعض المجتمعات عاجزة عن ربط التحول الاقتصادي الاجتماعي بالتحول الفكري. عاجزة عن فهم أن استيراد الماكينات لا يصنع تحولاً صناعياً، وأن بقاء الأفكار القديمة على حالها يقوِّض حتى القليل الذي تغير، وأنها بالإدارة المركزية للاقتصاد والتضييق على النشاط الاقتصادي للأفراد ونزع الملكية الفردية تسير في الحقيقة عكس اتجاه التطور. قرنان من الزمان لم يكونا كافيين لإدراك فلسفة التحول وجوهره، دوناً عن قشرته. الثورة الشيوعية بطغيانها الدعائي عززت تلك الأفكار القديمة، وأعادت صياغة أخلاق ورؤى المجتمعات الزراعية، ولكن بلغة أفندية خريجي أكاديميات.
والنتيجة، تكررت المأساة، ولكن بمتوالية أسرع.
في حال التخلُّف عن الثورة الصناعية ظلَّ ممكناً بعد قرنين أن تمتلك الأمل في تغير الأفكار، والأمل في مضاعفة سرعة سيارتك واللحاق بالقطار. أما مع ثورة الاتصالات في نهايات القرن الماضي، فقد صار الموضوع أصعب. دخلت الأقمار الاصطناعية في المعادلة، وتطوَّرت الشرائح الإلكترونية، وتمركزت الحواسب في قلب التغيير الاقتصادي. لكن الأفكار الموروثة من القرون الغابرة في الدول الحائرة لم تتغير. المناهج التعليمية، الخطابات الإعلامية، النقاشات الاقتصادية، العلاقة بين المواطنين، دور الدولة ودور المجتمع، كلها ظلَّت كما هي؛ ليس على مستوى الجماعات الدينية المتشددة فقط، كما يظن بعضنا، بل أيضاً على مستوى المثقفين الأفندية ورثة الستينات. والنتيجة أن الفجوة بيننا وبين الزمن المعاصر زادت، وأن الأفكار المتخلفة وجدت «براحاً» أكبر للتمدُّد بنفسها أو بأذرعها.
هل توقفت المأساة؟ أبداً.
تسارعت عجلة التحول الرقمي ووصلت إلى الذكاء الاصطناعي، وهو الثورة الصناعية الرابعة في العصر الحديث. حدث هذا ونحن، أيضاً، ما زلنا مطمئنين أننا سلحفاة ستنتصر، لأننا نعتقد أن الآخرين، الذين قفزوا كل تلك القفزات الاقتصادية والفلسفية والتكنولوجية، مجرد أرانب. أفكار نسمعها بأكثر من صيغة؛ أشهرها أن «الله سخر لنا الغرب بعلمه لكي نتفرغ نحن لهداية العالمين».
التحوّل الرقمي لا يعني فقط تبني التكنولوجيا الخاصة به، بل إن استيراد التكنولوجيا أو محاكاتها محلياً هو الجانب السهل. التحول الرقمي تطور شامل في أسلوب الإدارة، وفي العلاقة بين الفرد والمؤسسة، وفي الشفافية، وفي حجم توقعات المواطنين، وفي صياغة الأطر القانونية والإدارية والسياسية التي يعمل فيها. باختصار، التحول الرقمي تحول سياسي. وكل ثورة صناعية ثورة ثقافية.
لا يمكن في عصرنا الحالي أن تظل العلاقة بين الدولة والمجتمع كالعلاقة بين فريق كرة ومشجعيه؛ تؤدي الدولة المباراة ويكتفي المجتمع بالتصفيق أو الاستهجان. لا يمكن إدارة الاقتصاد بمستهدفات عاطفية، لا بد من مستهدفات رقمية ممكنة القياس. لا يمكن أن تُدار التحالفات السياسية بالشعارات الموروثة، لا بد من التفكير المنطقي العملي، وإلا اضمحل تأثير الدولة.
قبل نصف قرن، وبتنحية فروق التكنولوجيا، كانت المنافسة العقلية الإدارية في حيِّز الفارق بين نخبة ونخبة، الفريقان عقول بشرية. لم يكن هذا فرقاً هيناً. لكن الفارق صار الآن مهولاً، لأنه بين عقول بشرية تنتمي إلى زمانين، وفوق ذلك فإن أحد الفريقين متسلِّح بالتعلُّم الآلي، والقدرة اللانهائية على تحليل البيانات، واستيعاب جميع العوامل، وتحويلها إلى قيم كمية.
هذه الفروق تتضاعف، يوماً بعد يوم. تزداد بعد كل عملية يدخل فيها الذكاء الاصطناعي ويُراكِم جديداً من المعرفة. في الثورة الصناعية الرابعة، ثورة الذكاء الاصطناعي، لن يظل الأمل حياً بعد قرنين، ولا بعد عقدين. لا بد من التحرك فوراً.