الكتابة، هذا التعبير الفريد عن الذات، تحولت في زمننا إلى مرض العصر، ليس لأنها أداة تعبير خاطئة، بل لأنها باتت تعكس بشكل صارخ أمراض مجتمعاتنا وهواجسها. من المفترض أن نعيش الحياة بفرح ونقبل عليها بثقة وقوة، لكننا نجد أنفسنا غارقين في السوداوية والتشاؤم، وهما من أعقد أمراض مجتمعاتنا العربية.
السؤال الذي يتبادر إلى أذهان الجيل الحالي: لماذا كل هذه الحيرة والخوف؟ لماذا السوداوية والرعب؟ لماذا الهزيمة والضبابية؟ ولماذا تستمر هذه المفردات الثقيلة في الهيمنة على قاموسنا الجماعي؟
القضية التي نحن بصددها ليست مجرد مشكلة فردية، بل قضية جيل كامل، بل قضية وطن بأسره. الجيل العربي الحالي يعيش في أزمة هوية ومصير، والوطن العربي يواجه تحديات مصيرية.
مشكلاتنا، على عكس ما قد يظن البعض، ليست مادية في جوهرها. صحيح أن المال هو وسيلة لتحقيق الراحة، لكنه ليس حلاً كاملاً. المال وُجد لدى البعض بوفرة، لكن مشاكلهم لم تُحل.
ما نواجهه هو أزمة نفسية ومعنوية متجذرة، تعكس سيكولوجية الإنسان المقهور. هذه الحالة النفسية التي تطاردنا ليست وليدة اليوم، بل هي إرث متوارث. جيلنا العربي ولد في الهزيمة، ونما وترعرع في ظلالها.
الهزيمة ليست مجرد حدث تاريخي، بل حالة وجودية تعيش في الوجدان العربي. الجيل الحالي، منذ نعومة أظفاره، شاهد أرضه تُغتصب، ومقدساته تُدنس، وأهله يُشردون. أصبح هذا الجيل يلهث للحاق بركب التقدم العصرية، لكن الإحباطات والعراقيل تلاحقه في كل خطوة.
هذا الجيل المعذب يعاني من وطأة الهيمنة العنصرية بأبشع صورها، ممثلة في الصهيونية العالمية. يشعر أن قضيته المركزية – قضية فلسطين – ليست مجرد مأساة شعب، بل جرح مفتوح لكل إنسان شريف في هذا الوطن.
الجيل العربي يسمع يومياً عن القتل والتدمير الذي يضرب غزة، ويقف مذهولاً أمام الاكتشافات العلمية والتكنولوجية الحديثة، لكنه يبقى عاجزاً عن اللحاق بركب التقدم. هذا الجيل لا يعرف من أين يبدأ ولا إلى أين يتجه.
إحدى القضايا الجوهرية التي تواجهنا هي أزمة أخلاق. الأخلاق ليست مجرد قيَم عليا، بل هي الأساس الذي يُبنى عليه أي مجتمع متماسك. الأقوياء في هذا العالم لهم أخلاقهم الخاصة، التي لا تتسع للتعاطف أو الكرم تجاه الضعفاء.
الكآبة التي نعاني منها ليست حصراً علينا كعرب، بل هي مرض مشترك بين الشعوب المقهورة. الإرث الثقيل من القهر والهزيمة الذي نحمله يشبه ما تحمله شعوب أخرى نامية. لكننا، على عكسهم، لم نستطع أن نُحول ألمنا إلى قوة دافعة للتغيير.
العالم اليوم لم يعد يستخدم العلم لخدمة الإنسانية وعلاج المرضى، بل أصبح وسيلة لقهر الشعوب والسيطرة عليها. التكنولوجيا التي كنا نطمح أن تكون وسيلة للتحرر، أصبحت أداة بيد القوى الكبرى لتكريس هيمنتها.
جيلنا العربي يجد نفسه غارقاً في هذه المفارقة. كيف له أن يناضل من أجل مستقبله، بينما يعيش في ظل قوى عالمية تستغل العلم لتعزيز سيطرتها، وشعوب محلية لا تزال أسيرة الخوف والتردد؟
إقرأ أيضاً: "السفير".. أيقونة صحفية لا تُنسى
لقد سقط "الأب الكبير" للعرب – الوطن العربي؛ ومع سقوطه، جاء الضياع. سقطت فلسطين، وسقطت أراضٍ عربية أخرى، ولا يزال العرب يعيشون في حالة من التيه والفراغ.
لكن هذا لا يعني أن الأمل مفقود. بل على العكس، علينا أن نفهم أن سقوط الوطن ليس النهاية، بل بداية رحلة جديدة نحو استعادته.
في الماضي، صرخت امرأة في "عمورية" قائلة: "وامعتصماه"، فجاء الرد فتحاً عظيماً وصفه أبو تمام بـ"فتح الفتوح". اليوم، تصرخ آلاف النساء، ولا مجيب.
ماذا لو عاش المعتصم، أو صلاح الدين، أو خالد بن الوليد بيننا اليوم؟ هل كانوا سيصابون بداء العصر – الكآبة – أم كانوا سيمتطون خيولهم ليخوضوا معارك جديدة من أجل الكرامة والحرية؟
إقرأ أيضاً: أمنيات عام جديد
الإجابة ليست في استدعاء أبطال الماضي، بل في استلهام روحهم وإرادتهم. علينا أن نفهم أن الطريق إلى الخلاص يبدأ من الداخل، من توحيد الكلمة والصفوف، من الإيمان بالعلم والعمل كوسيلة للتحرر.
الأمل يتحقق عندما نستعيد حقوقنا المسلوبة، عندما يصبح الوطن مساحة للكرامة والحرية. يومها فقط، ستختفي الكآبة، وسيعود الإنسان العربي ليتنفس الحياة بكل أبعادها.