كنت أعتقد أن جملة السياسي والزعيم البريطاني تشرشل "الديمقراطية أفضل الأنظمة السيئة" إحدى نكاته الساخرة، لكن حين عشنا غمار تجربة التحول في العراق من الدكتاتورية إلى الديمقراطية، وحجم الخسارات وانهيار القيم الاجتماعية ومظاهر الانحطاط السياسي ومعدلات الفساد غير المسبوق في التاريخ، ومجمل ما حلَّ بالوطن والمواطن خلال عشرين سنة مضت، تستدرك أحقية طروحات بعض المفكرين ومنهم الفيلسوف والكاتب المسرحي الأيرلندي جورج برنارد شو الذي قال "الديمقراطية لا تصلح لمجتمع جاهل لأنَّ أغلبية من الحمير ستحدد مصيرك"، كما حذر بعضهم من خطر "طغيان الأغلبيَّة"، ناهيك عن الهجوم الشامل والشرس الذي شنه المفكر النمساوي هانز هيرمان هوبا ضدها في كتابه "الديمقراطية... الإله الذي فشل".
هذه الانتقادات ارتبطت بمجتمعات عاشت ردحاً طويلاً من تجارب الديمقراطية والتقدم الاجتماعي والاقتصادي والتحول التدريجي الذي استغرق عشرات أو مئات السنين، كما في التجربة البريطانية وغيرها من تجارب الديمقراطية الليبرالية، إذن كيف يكون الحال مع تجربة تتسلط فيها أحزاب وشخصيات من المستبدين واللصوص والثيوقراطيين والنازلين من النظام الدكتاتوري القديم بسلالم الطائفية، للمسك بسلطة تتيح الاستحواذ على النفوذ والمال والسلاح دون موانع أو قوانين رادعة، بل حدث ما هو أسوأ وأكثر انتهاكاً للمجتمع عندما أسروه وأعادوه تحت إرهاب السلاح إلى تقاليد القبيلة وزمن ماقبل الدولة!؟
الفكرة المترشحة عن هذه المقدمة، هي أنَّ حياة الشعوب وتحولاتها تخضع لجملة من الظروف الموضوعية والذاتية الناضجة، حيث يتراكم فيها الوعي الاجتماعي كشرط أساسي في التغيير والتقدم والتحول نحو عقد سياسي جديد يُنظّم العلاقة المتنافذة بين مصالح المجتمع بتنويعات مكوناته وانتماءاته مع مصالح الدولة وفلسفتها، ليكتسب عندها النظام - الدولة صفة العقد الاجتماعي المتوافق بحسب طروحات المفكر جان جاك روسو، صاحب نظرية العقد الاجتماعي، وليس قرارات قوى دولية أو دولة احتلال تفرض نوع النظام الديمقراطي، أو دوافع ارتجالية لتغطية فشل سياسي أو مرحلة حكم فاسدة، ومحاولة التخلص الشكلاني من جمود يغلق آفاق التطور والحياة لمشروعها المتوقف بعد سنوات من فشل إنبات الديمقراطية بأرض غير صالحة.
إنَّ الدعوات لمراجعة الأخطاء وتقديم مشروع مصالحة وتأسيس عقد سياسي جديد، كما يتردد على ألسنة عدد من السياسيين العراقيين وجهات دولية، يشبه إعادة "بناء حمام جديد بطابوق قديم" كما يقول المثل الانكليزي، طالما إنه يعتمد ذات الأدوات والشخصيات السياسية المسؤولة عن الفشل والانغلاق وموت العملية السياسية!؟
إنَّ مشروع تحول المجتمعات نحو النظام الديمقراطي يقترح جملة عوامل أبرزها وجود نمط جديد من حداثة التفكير الحر غير المقيد بسلطة نصوص دينية أو فقهية أو موروثات ساكنة ومقيدة لحرية التفكير، بل يعتمد المبادئ العملية في مشروع الديمقراطية وأهمها الاقتصاد الحر وعلمانية الدولة التي تفصل سلطة رجال الدين عن السلطات التشريعية والتنفيذية للدولة.
فشل التجربة الديمقراطية في العراق سببها أن الاحتلال الأميركي سلّم السلطة لمجموعة أحزاب إسلاموية طائفية وأخرى قومية وأثينية وليبرالية الطابع تم تصنيعها في دوائر المخابرات الدولية، وأغلبها لا تؤمن بحداثة التفكير وحريته وقواعد التنظيم الداخلي للديمقراطية، بل أحزاب منغلقة على مفاهيم أيديولوجية ودينية وأخرى قبائلية وثالثة غير مؤهلة سياسياً في تقبّل نظام ديمقراطي مستقل بقوانين قوته الداخلية، هذا التركيب المشوه الذي يقوم على فكرة إلغاء المواطنة ووحدة الوطن، انتهى لمشروع تقاسم السلطة وفق منهج المحاصصة الحزبية سيئة الصيت التي استحوذت على سلطاتها أحزاب طائفية وعرقية استأثرت بالمال والنفوذ والسلطة، وأعادت إنتاج الدكتاتورية على نحو أبشع مماكان في النظام العراقي الدكتاتوري السابق.
لم يتوقف فشل النظام "الديمقراطي" عند هذه الحدود، بل مسخ كل ماله علاقة بالديمقراطية بعد أن قادت هذه الأحزاب مؤسسات الدولة إلى مستنقعات ومستعمرات فساد خيالية وغير مسبوقة أبداً، كما عملت على تفكيك الدولة وتحويل أصولها إلى ممتلكات شخصية، وبناء الدولة العميقة الموازية للدولة الشكلانية الهشة، وأسسوا لميليشيات حزبية وعقائدية موازية للجيش النظامي، وغاب القرار السياسي الوطني بعد أن تجزأت الانتماءات وأصبح كل قرار يخضع لإرادة القوى والدول الخارجية سواء إيران أم أمريكا أم دول أخرى لها أجندات فاعلة في العراق.
وإذا ما تخطينا التوصيف السياسي فإن الفشل أصبح لازمة للخدمات عموماً، وتزايدت نسب البطالة وارتفعت نسبة العجز في ميزانية الدولة وفي مستويات المعيشة لدى عامة الناس، تقلصت الحريات واتسعت مساحات وقرارات الممنوع بحيث صار إسكات الأصوات النقدية والمحتجة ظاهرة لطبيعة السلطة المدنية المختلطة بالبوليسية والمليشياوية دون تمييز واضح!؟
ديمقراطية الاحتلال الأميركي للعراق ينطبق عليها وصف المفكر النمساوي هيرمان هوبا بـ"الإله الذي فشل" بإنقاذ العراق من الدكتاتورية، بل عمد إلى وضعه في أتون أزمة كبيرة ومتشعبة ومتراكمة خصوصاً بعد تسليم مقدراته السياسية والمالية إلى دول الجوار، أزمة تاريخية تمتد على جميع مستويات الحياة العراقية وتؤشر لمعطيات مستقبلية خطيرة، ربما لايمكن الخلاص منها إلا بعمليات جراحية كبرى يخوضها الشعب ضد أعدائه في دورة حياة جديدة.