ذات ربيع، وأنا أسير متمهلة كما يسير التاريخ في المدن القديمة، متنقلة بين أزقة وساحات فلورنسا، قادتني قدماي وفضولي للدخول في كثير من حوانيت فلورنسا الصغيرة، التي تبيع ذوقاً إيطالياً خالصاً ومختلفاً، تحفاً وتذكارات ومنحوتات ساحرة، ذوق تحسه معتقاً وذاهباً في الزمن وفي الإتقان حداً يمكنه أن يجعلك تصرخ من شدة الدهشة!
كيف يمكن لشيء صغير (تمثال لطفل من المرمر الأبيض، علبة معدنية أنيقة تحوي شيئاً من زيت الزيتون، حذاء طفلة، قميص رضيع بأزرار من اللؤلؤ، سوار فضي تشتريه لصديقة غالية..) أن تفتنك إلى هذه الدرجة، هذه الأشياء لا تشبه غيرها مما اشتريته حول العالم، وإذ يراك البائع تقلّب شيئاً منها بين أصابعك يبادرك: إنه صناعة محلية يدوية، من فلورنسا!
تنمو فكرة الإتقان وحب الفن كنتيجة طبيعية لتأثير البيئة على الناس وتأثير الطبيعة التي تحيط بهم، والقيم المتوارثة بينهم جيلاً بعد جيل في كل مجال وفن وعمل، إن الإتقان قيمة ومكون أساسي من مكونات الحضارة والفن والإبداع، تحول بفعل الزمن والممارسة ورقابة المجتمع إلى عنصر أساسي ومكون ثابت في الحضارة، وهذا هو السبب في ما لا يزال أبناء هذه الحضارات يحتفظون بهذا الإتقان والحرفية في الصناعات الإبداعية التي ينتجونها!
كانت حوانيت التذكارات غالباً ما تجتذبني في كل مكان سافرت إليه، وأقع في الدهشة دائماً أمام محتوياتها ورائحتها أنا التي -اعتقدت - أنني قد اكتفيت بكل ما شاهدت في أسفاري الكثيرة، فاكتشفت في كل مرة أزور فيها مدن الفن القديمة، أنني أمام الجمال لا يمكنني سوى أن أدهش كما أول مرة!
في أحد محال للذهب، فاجأتني دماثة البائع الإيطالي وسمرته المميزة، وشعرت كأنني أعرفه، أنني تبادلت الحديث معه في القاهرة أو بيروت أو طنجة، ذكرني برجل يدير مقهى في ميناء جبيل يقدم فيه قهوة لذيذة، سألت أليكس: هل أنت من أهالي فلورنسا؟، قال نعم لكن أبي مصري، ووالدتي أصولها من حلب ثم أخرج ألبوم صور له ولوالده ووالدته..
ألم أقل إنني شعرت بألفة غريبة تجاهه؟