أثارت الجولة العربية الأخيرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، التي شملت كلاً من الإمارات ومصر، ولقاء رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية في دبي، تساؤلات عن ماهية التوجه التركي تجاه العالم العربي. وما إذا كان يعبّر عن استمرار للاتجاه التكميلي في السياسة الخارجية التركية أم ذو طبيعة استراتيجية؟
فالمتابع للسياسة الخارجية التركية كان يلاحظ أن توجهها نحو العالم العربي كان توجهاً ثانوياً، أو فرعياً لتوجهها الرئيسي تجاه أوروبا، والدول الغربية عامة. ولكن المتابع يلاحظ أيضاً أنّ هناك زخماً يرافق إعادة توجيه السياسة التركية تجاه الدول العربية، وفي مقدمتها دول مجلس التعاون الخليجي ومصر، والذي جاء بعد فترة مخاضٍ طويلة، سبقتها توترات وصراعات وتعظيم للمشكلات بين أنقرة وجوارها العربي.
وهذا الزخم يأخذ مظاهر متعددة، أهمها زيارات متبادلة على مستوى القمة، واتفاقات تعاون اقتصادي وثقافي وعسكري، وشراكات اقتصادية شاملة، وتنسيق في المواقف السياسية من القضايا ذات الاهتمام المشترك، وتنامي معدلات التبادل التجاري بين أنقرة والدول العربية. وفي الوقت نفسه الذي تختبر فيه السياسة العربية لتركيا زخماً كبيراً متواصلاً، تمر العلاقات التركية-الغربية بفترة ركود نسبي، بفعل عدد من المتغيرات، في مقدمتها الحرب الروسية-الأوكرانية، وتأجيل الطلب التركي للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لأجلٍ غير مسمى، وحرب غزة.. إلخ.
وعليه، يمكن القول إن التوجه التركي تجاه العالم العربي بات اتجاهاً رئيسياً في السياسة الخارجية التركية، يعبّر عن حجم مصالحها مع الدول العربية، ويمثل مبادئها الجديدة القديمة، ولاسيما الانفتاح على دول الجوار، وتصفير المشكلات، ويجسد تصورها لنفسها بكونها قوة متوسطة متعددة التحالفات، أو متنوعة الشركاء.
وقد استكملت حلقات هذا التوجه العربي لتركيا بزيارة أردوغان لمصر في 14 فبراير/ شباط الجاري، للمرة الأولى منذ 11 عاماً. وجاءت هذه الزيارة في إطار محاولة للتنسيق بين الدولتين لإنشاء نظام إقليمي جديد قائم على إدارة الصراعات والحيادية، بهدف تحقيق أقصى قدر من المصالح المشتركة بينهما، وفرض معادلة إقليمية وجيوسياسية جديدة، تضمن الاستقرار النسبي في المنطقة.
وقد كانت التغيّرات الإقليمية والأزمات التي تواجهها المنطقة حاضرة على جدول أعمال الزيارة، ومن أبرزها وقف إطلاق النار، وتقديم المساعدات الإنسانية الكافية في غزة، والمساهمة في تحقيق الاستقرار في ليبيا عن طريق التوصل إلى اتفاق يحقق المصالح المشتركة لكلا البلدين، وتنسيق الجهود في الصراع الأهلي في السودان، والتأكيد على عدم تقسيم الصومال، والعمل على زيادة حجم التجارة بين البلدين والتعاون في المجال العسكري والدفاعي.
وثمة مضامين كثيرة لزيارة الرئيس أردوغان للقاهرة، ولقائه بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، لا يتسع المقام للحديث عنها، غير أنها جميعاً إيجابية، وإن تباينت في الدرجة. فهناك من يرى أن التحديات والفرص الكبيرة التي تواجها المنطقة دفعت مصر وتركيا إلى التعاون والتنسيق للتصدي لها، والاستفادة من الفرص المتاحة لتحقيق الاستقرار والتنمية. ولكن أكثر ما لفت النظر هو تعليق إحدى الصحف التركية على الزيارة بأنها تُسهم في إنشاء محور جيوسياسي جديد، يضم تركيا، ومصر، وقطر، والسعودية والإمارات، سيكون له أهمية فائقة بالنسبة إلى مستقبل الشرق الأوسط، والقضايا العربية.
وسواء كنا بإزاء تأسيس محور جيوسياسي جديد، أو منتدى لتنسيق السياسات بين تركيا والدول العربية المحورية المذكورة أعلاه، فلا بد من الإشارة إلى الدور الإماراتي الرائد، أو ما يطلق عليه بعضهم بحق «البلدوزر الإماراتي»، في تعبيد الطريق لتطبيع العلاقات العربية-التركية، بعد فترة غير قصيرة من التوتر أثناء فترة ما عرف ب«الربيع العربي»، والتمهيد لإعادة توجيه السياسة التركية تجاه محيطها العربي؛ من أجل رفد قوى الاستقرار الإقليمي برافد جديد.
وبصورة محددة، كان توجه الرئيس التركي إلى القاهرة بعد لقائه بصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، بدبي يحمل دلالة رمزية كبيرة، تشير إلى دور «البلدوزر الإماراتي» في تطبيع العلاقات التركية-المصرية. فقد أعرب المسؤولون الإماراتيون علناً عن دعمهم لتطبيع العلاقات بين مصر وتركيا، وربما سهّلوا التواصل بين مسؤولي البلدين عبر القنوات الخلفية. وهناك المصلحة الاقتصادية المشتركة بين كلٍ من تركيا ومصر من جهة، والإمارات من جهة أخرى التي كانت بمثابة حافز إيجابي لتحسين العلاقات التركية-المصرية. وهناك الدبلوماسية الإماراتية النشطة التي أقنعت الطرفين أن التهديدات الأمنية الهائلة التي يعج بها أكثر أقاليم العالم اضطراباً تتطلب توافق القوى الإقليمية الرئيسية، وفي مقدمتها مصر وتركيا، لمواجهتها.
والخلاصة أن التوجه التركي الحالي تجاه العالم العربي يعبّر عن اتجاه رئيسي في السياسة الخارجية التركية، وليس مجرد اتجاه تكميلي لها، كما كان في السابق، كان ل «البلدوزر الإماراتي» دور كبير في التمهيد له.
والأهم من ذلك، أنّ هذا التوجه التركي الرئيسي تجاه العالم العربي يأتي في وقت نحن في أمسّ الحاجة للتنسيق والتعاون بين تركيا والدول العربية الوازنة، لمواجهة التحديات والاضطرابات العديدة والمتنوعة التي يعج بها الإقليم.