: آخر تحديث

اللغة المهاجرة!

14
17
13

ثغثغات يمتلئ بها الفضاء السمعي، فتلوِث السمع والوجدان وهويته! هجين مختلط من اللهجات غير المحلية (لهجات عربية) وهجين بين اللغة الإنجليزية والعربية! ومشتقات مستحدثة توبخ الضمير في كل دقيقة تمر. غيرة غير متوفرة بين أناس لا يربطون عروبتهم بلغتهم!

هبطت في مطار برلين، فمكثت ساعات أهرول في الطرقات متوسلة الإجابة على سؤالي بلا جدوى، حتى فتح الله عليّ بوجود لبناني يتحدث العربية! كل ذلك لأن الألماني يرفض التحدث مع أحد سوى بلغته هو . كما أن ألمانيا ترفض العمل أو الدراسة أو الإقامة أو منح الجنسية حتى يتقن الفرد المتقدم اللغة الألمانية.

أما إنجلترا وأمريكا فقد نجحتا أن جعلتا الإنجليزية هي اللغة السائدة حتى يصل الأمر أن نتباهى بها، وكأن من يتقنها قد استعاد المسجد الأقصى! أما اللغات الشرق آسيوية فقد نجحت العمالة في بلادنا على نشر - إما الإنجليزية المكسرة - أو التحدث معهم بلسانهم في عربية مشوهة! لماذا هذا العار وهذا التنازل عن لساننا؟ الذي قال عنه المولى عز وجل: (وهذا لسان عربي مبين)، ولو تأملنا ذلك، لوجدنا ذلك أن الفخر والجلال والتاريخ وثقافة الإعجاز لا تتوفر سوى في لغتنا العربية التي اختصها الله سبحانه وتعالى لكتابه الكريم! فحين نحملق في الأفق مشدوهين خلف اللغة وهي تهاجر، لا نجد رجعة لها إذا لم نتدارك خطورة هذا الوضع.

لقد كنت في أحد المهرجانات الدولية في إحدى الدول العربية، وتقدمت وزيرة ثقافة هذه الدولة لتلقي بكلمتها، إلا أنها تثلغ الكلمات ثلغاً، وتتتأتأ في اللغة بشكل كبير مما استاء منها جميع الحاضرين. وحينما سألت إحدى المجاورات لمقعدي قالت لي: إن ثقافتها فرنسية! ثم تمر السنون، وأحضر افتتاح أحد المهرجانات في دولة عربية أخرى، فألقى الوزير كلمة مدتها خمس دقائق، إلا أنه أخطأ في هذه الدقائق الخمس خمسة أخطاء! أيعقل هذ؟ا!!

شيء غريب لم أجد له أي تفسير! سوى أننا لا نغار عليها ونستهين بها، ولعلنا نحيا أبيات الإمام الشافعي. حين قال:

والتبر في كالترب ملقى في أماكنه.. والعود في أرضه نوع من الحطب

فإن تغرب هذا عِزَّ مطلبه... وإن تغرب ذالك عَزَّ كالذهب.

ذلك لأننا لا نعتز ونفتخر بلغتنا، وهنا تكمن الإشكالية! بل نتباهى حين نلوي ألسنتنا لنعلي من ذواتنا باعتبار أن اللغة الأجنبية مستوردة، والولع بالمستورد لدينا مرض عضال عافنا الله وأنتم منه.

فلماذا وهي لغة القرآن الكريم، ولغة سيدنا محمد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، بل ولغة أهل الجنة؟ وبهذا نقف هنيهة عند عظمة اللغة العربية والتي أشار إليها المؤرخون بأنها قد اجتاحت العالم في العصور التي كانت تجد من يغار عليها، والتي كانت جزءاً لا يتجزأ من تكوين شخصياتهم الفذة القائدة، حتى أصبحت أكثر سعة وانتشاراً من اللاتينية واليونانية كما دونه المؤرخون. فلهذه اللغة قداستها وقدمها كلبنة أولى من لبنات الحضارة البشرية والإنسانية بأنها اللغة الأولى لبني البشر وللإنسانية بصفة عامة، وكيف أنها كانت لغة أهل الجنة كما ذكر الطبري وأبو الفوز وابن كثير حيث قال: إن آدم يكنى في الجنة بأبي محمد؛ ثم انتقالها إلى الأرض حيث إن اسم آدم عليه السلام كان عربياً كما ذكرت المصادر سالفة الذكر، حيث إن الاسم (آدم) هو مشتق من أدمة الأرض، كما ذكر السويدي في كتابه سبائك الذهب!

ولهذه اللغة عظمتها وخاصة القديمة منها فهي محفوظة في المتاحف العالمية مثل متحف لايدن بهولندا، حيث نجد بعض النقوش الحجرية منها في المتحف نفسه، والتي يحتفظ بها هذا المتحف؛ وبعض النقوش التي لم تُفك نقوشها بعد! وقيل: إنها باللغة العربية الجنوبية، وحينما حاولت قراءتها وجدتها تقترب من لهجة جنوب الجزيرة وخاصة أهل تهامة واليمن تقريباً.

لا يهم فك نصوص هذه النقوش بقدر أهمية أنها صدرت من الجنوب الغربي للجزيرة العربية في زمن ما قبل التاريخ! أفلم يحن الوقت أن نغار عليها وأن نفتخر بها؟!

نحن نتعجب من ذلك السباق المحموم على حجز مدارس اللغة الأجنبية وعلو أسعارها والتفاخر بأن ابن هذا أو ذاك في مدرسة أجنبية اللغة! لسنا ضد العلم وتعلم اللغات، ولكننا ضد الترخيص والاستهتار بل والتنكر للغتنا الأم، أم الحضارة الإنسانية أجمع. لسنا ضد المعرفة وطرق أبوابها، ولكننا ضد التباهي بغيرها حتى أصبحنا ننطق كلمة عربية مطعمة بمرادفاتها الأجنبية - للتباهي والاستعراض ليس إلا، بالرغم من أن الحديث بين اثنين عربيين!

الألمان يتقنون اللغة الإنجليزية والفرنسية، إلا أنهم لا يحدثون أحداً بغير لغتهم، أليسوا على قدر كبير من الاحترام والتقدير؟!

يقول الشاعر فؤاد بركات وهو شاعر سوري ولغوي من الدرجة الأولى: "لغتنا العربية تلك اللغة البديعة أميرة بين اللغات ولها من صفات الأميرات العراقة والعظمة ثم صعوبة الوصول إلى قلبها".

وحينما سألته عن سبب هذا الحس الدقيق في اللغة لديه قال: "أجبرني والدي على تعلمها صغيراً ومع أنه لم يحمل سوط والد بيتهوفن الذي كان يضرب ابنه صغيراً ليعزف الموسيقى، فإن والدي كان يمثِّل لي "الكُتّاب" الذي يجبرك على الحفظ.. فتضيق به وأنت طفل لكنّك تدعو له شاكراً كل العمر، لقد أجبرني والدي على حفظ القرآن وأنا صغير. فصار حسُّ الصواب في قراءة العربية سليقةً عندي. فأنا قبل أن أعرف سبب اللحن أحس أن الأرض زلزلت من خطأ في كلمة أو وزن بيت من الشعر".

تأملت كلامه قليلاً وتذكرت أن عباقرة الشعر والأدب والفن أيضاً كانوا قد حفظوا القرآن صغاراً! مثل طه حسين وسيد درويش، والعقاد، وحتى أم كلثوم. إذاً وفي ظل التهافت على مدارس اللغات اجعلوا لأولادكم (كُتَّاباً) اجعلوهم يحفظون القرآن، وأعتقد أنه مفتاح السر للحفاظ على لغتنا التي أصبحت للأسف مهاجرة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد