إدريس لكريني
حظي الدستور المغربي الصادر عام 2011 باهتمام كثير من الباحثين والمحللين الذين حاولوا رصد مستجداته وأهميتها، وطرح إشكالاتها المختلفة، غير أن السمة العامة التي طبعت مجمل هذه التحليلات والدراسات هو تركيزها على تناول جوانبه المتصلة بالحقوق والحريات ومهام الفاعلين على مستوى تدبير الشأن العام الداخلي.. فيما لم تجد قضايا السياسة الخارجية وما يتصل بها من مستجدات في هذا الصدد اهتماماً كبيراً، خصوصاً وأن هذا الإصلاح حمل مجموعة من المستجدات على مستوى صناعة القرار الخارجي.
تتأرجح المواقف المرتبطة بالسياسة الخارجية للمغرب بين موقفين أساسيين: أولهما تقليدي، يركز على الفرضية التي تعتبر أن هذه السياسة تبقى مجالاً محفوظاً للملك، اعتباراً للصلاحيات الوازنة التي يحظى بها على مستوى رئاسة المجلس الوزاري والمجلس الأعلى للأمن؛ وإعلان الحصار وإشهار الحرب.. وثانيهما حديث يعتمد رؤية واقعية وسياسية منفتحة، ويرى بأن هناك شركاء آخرين يساهمون إلى جانبه في نسج هذه السياسة، كما هو الأمر بالنسبة لرئيس الحكومة ووزير الخارجية وباقي الوزراء ومؤسسة البرلمان بغرفتيها عبر آلية الدبلوماسية البرلمانية والمصادقة على المعاهدات الدولية.
لا شك أن المتغيرات الدولية والإقليمية التي حدثت خلال العقود الثلاثة الأخيرة؛ أثّرت بشكل ملحوظ في ملامح السياسة الخارجية للدول؛ وبخاصة مع تطوّر مفهوم السلم والأمن الدوليين؛ وتصاعد أهمية الاقتصاد في العلاقات الدولية في مقابل تراجع البعد الأيديولوجي، إضافة إلى أزمة الخليج الثانية وجلوس الطرف الفلسطيني و«الإسرائيلي» على طاولة المفاوضات وما ترتب عن ذلك من اتفاقات؛ علاوة على أحداث 11 سبتمبر التي فرضت الالتفات إلى مخاطر الإرهاب الدولي الذي تزايدت حدّته بصورة خطرة في السنوات الأخيرة، كما لا تخفى أيضاً تحولات الحراك وما أفرزته من إشكالات إقليمية كبرى؛ فرضت تحديات أمام السياسة الخارجية للمغرب كما هو الأمر بالنسبة لمختلف دول المنطقة..
حاول المغرب تكييف سياساته الخارجية مع هذه المتغيرات، مع استحضار عدد من الثوابت والمحددات؛ في ارتباط ذلك بقضية الوحدة الترابية؛ وبناء الاتحاد المغاربي والانفتاح على المحيطين العربي والإسلامي، وتعزيز علاقاته ضمن الدائرة الإفريقية والجوار الأورو- متوسطي، وتمتين علاقاته مع مختلف القوى الدولية.
لقد شهدت السياسة الخارجية للمغرب تطوراً مهمّاً في العقدين الأخيرين؛ بعدما أضحت مبادرة وأكثر دينامية ووضوحاً على مستوى اتخاذ المواقف مقارنة مع السلوكات الخارجية المهادنة السابقة، واستطاعت أيضاً الموازنة بين تعزيز العلاقات المغربية مع شركاء جدد (الولايات المتحدة والصين وروسيا ودول إفريقية..) دون أن يكون ذلك على حساب العلاقات مع القوى التقليدية كفرنسا وإسبانيا ومختلف دول الاتحاد الأوربي بشكل عام.. كما نجحت إلى حد كبير في الموازنة بين الدفاع عن قضية الصحراء من جهة؛ والحفاظ على العلاقات المتينة مع القوى الدولية الكبرى.
في هذا الإطار؛ ومواكبة لمستجدات هذه السياسة؛ شهدت كلية الحقوق بمراكش أخيراً مناقشة أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام تحت عنوان: «السياسة الخارجية المغربية في ضوء دستور 2011.. دراسة تحليلية للأدوار والأولويات» تقدمت بها الباحثة آمال الحواسني أمام لجنة مكونة من د.محمد سحام ود.محمد نشطاوي ود. محمد بنحمو ود.مصطفى منار ود. العربي بلّا.. ونالت على إثرها درجة الدكتوراه بميزة مشرفة جداً.
تنطوي هذه الأطروحة التي أشرفت عليها شخصياً لأكثر من خمس سنوات؛ على قدر كبير من الأهمية ليس فقط من حيث الراهنية والجدّية التي تتميز بهما، وإنما بسبب ما عرفته السياسة الخارجية المغربية في السنوات الأخيرة من تطورات تفرض تحليلها وتفكيكها، كما أن دستور 2011 توّسع في مجال هذه السياسة قياساً بباقي الدساتير التي عرفها المغرب منذ الاستقلال، بتضمينه لمقتضيات نظمت مجالات تتعلق بالممارسة الخارجية للمغرب بشكل مباشر أو غير مباشر، تشكل في مضمونها خريطة طريق بالنسبة للفاعلين السياسيين.
وأمام هذه المستجدات؛ وعلى الرغم من الصعوبات التي تعتري تناول موضوع هذه السياسة على ضوء مقتضيات الدستور الجديد، سواء على مستوى راهنية الموضوع أو من حيث قلّة الوثائق والكتب والدراسات التي تناولته بالتحليل، حاولت الأطروحة البحث في هذا المجال لعلّها تساهم في تسليط الضوء على جزء من جوانبه الغامضة، والمساهمة في إغناء البحث الأكاديمي في هذا الخصوص..
انطلقت الأطروحة من تساؤل مركزي يسائل حدود مساهمة دستور 2011 في تغيير ملامح ومرتكزات السياسة الخارجية المغربية على مستوى أدوار الفاعلين والأولويات، ومن خلال التطرق إلى المرجعيات الأساسية التي تحكم هذه السياسة؛ سواء تعلق الأمر بمحدداتها ومبادئها الأساسية، أو بدراسة اختصاصات الفاعلين الأساسين في صناعتها، أو تحليل مختلف الأولويات الجديدة المتحكّمة في توجهاتها، ووقفت الباحثة على جملة من الاستنتاجات، فعلى مستوى الأدوار: خلصت إلى أن هذه السياسة ما زالت تدخل ضمن المجال المحفوظ والخاص للملك. فرغم توسيع دستور 2011 لاختصاصات السلطة التنفيذية، وكذا التشريعية في المجال الخارجي، إلا أن ذلك لم يحدث قطيعة مع النسق السابق؛ فيما يخص بنية إدارة هذه السياسة؛ إذ ظلت المؤسسة الملكية تتمتع بمكانة متميزة في هذا الشأن، وتسمو بذلك على باقي المؤسسات السياسية والدستورية الأخرى، التي غالباً ما تكتفي بالمساهمة في بلورة القرار الخارجي دون رسم ملامحه التي تجسد ترجمة لفلسفة وتصورات الملك في هذا المجال..
أما على مستوى الأولويات، فقد خلصت الباحثة إلى أن دستور 2011 لم يغير ملامح ومرتكزات هذه السياسة؛ بل إن التغيرات الإقليمية والدولية والسعي لخدمة المصالح العليا في أشكالها المتطورة.. كلها عوامل أسهمت في إعادة ترتيب أولويات السياسة الخارجية المغربية، ببروز قضايا جديدة بالموازاة مع قضية الصحراء، كالاهتمام بتعزيز العلاقات المغربية-الإفريقية، والانفتاح على فضاءات جديدة لم تكن حاضرة بقوة في أجندة الدبلوماسية المغربية في مراحل سابقة، إلى جانب بروز العامل الاقتصادي كمحدد أساسي في هذه السياسة.