التحقت بجامعة القاهرة سنة 1969. كان الرئيس جمال عبد الناصر يقود حرب الاستنزاف ضد إسرائيل. الغارات الجوية الإسرائيلية على العاصمة المصرية وعلى كل أراضي البلاد لا تتوقف. مرارة هزيمة يونيو (حزيران) 1967 الكارثية حالة اجتماعية ونفسية، تعيش في وجدان كل أبناء الشعب. لكن إرادة المواجهة ودحر الهزيمة كانا القوة الضاربة التي تملأ مشاعر الجميع. خطابات الرئيس جمال عبد الناصر تشحن المعنويات، ومعارك الاستنزاف ترفع زخم الإرادة والإصرار على هزيمة العدو. في سبتمبر (أيلول) سنة 1970، رحل الرئيس جمال عبد الناصر، وشاركتُ في جنازته المليونية الأسطورية. كانت الهتافات والبكاء وصور عبد الناصر، لوحة ناطقة بقوة أمة أبدعت نسغ الحياة، ورفع أعمدة التاريخ.
تولى أنور السادات الرئاسة، بعد القائد الذي ملأ المكان، وفاضت زعامته على دنيا العرب. شكك قريبون من السادات في دائرة الحكم المصرية العليا، في قدرته على حمل ثقل الهزيمة، وقيادة معركة التحرير. لكن السادات بدهاء السياسي، الذي عاش في ظل جمال عبد الناصر يدبج له خطابات الولاء، تمكّن من إزاحة كل المستهزئين به بضربة واحدة، وشرع في التخطيط لمعركة تحرير أرضه. قيل الكثير عن حرب السادس من أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1973، وزيارة السادات إلى القدس، واتفاقية السلام مع إسرائيل. لكن الحقيقة التي جعلت قادة إسرائيل، يضعون أيديهم على رؤوسهم، ويفكرون في مستقبل ملغوم، ينذر بخطر وجودي، كان عبور الجيش المصري الصاعق لقناة السويس، وتحطيم خط بارليف في ساعات. لقد تغير كل شيء. بعد هزيمة الجيوش العربية في حرب يونيو 1967، قال الجنرال موشي دايان، لن تستطيع مصر أن تدخل في معركة مع إسرائيل قبل عشرين عاماً. كانت رغبة إسرائيل في السلام لا تقل، إن لم تزد على رغبة مصر. فمصر هي القوة العسكرية والسياسية الأكبر عربياً، ولها ملاءة سكانية متفوقة كثيراً على إسرائيل.
في السنة ذاتها التي وقَّعت فيها مصر اتفاقية السلام مع إسرائيل سنة 1979، شهدت المنطقة بركاناً سياسياً عنيفاً، أعاد تشكيل خريطة القوى السياسية في المنطقة. ثورة شعبية إسلامية في إيران تسقط نظام الشاه صديق إسرائيل، وتعلن دعمها للقضية الفلسطينية، وتتبنى سياسة العداء لإسرائيل. زرت طهران للمرة الأولى سنة 1981، وكنت حينها وزيراً للإعلام، رفقة الرائد عبد السلام جلود، ضمن وفد وزاري ليبي كبير. كان الرائد جلود، معارضاً بشدة لاتفاقية كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر، واعتقد أن الثورة الإيرانية ستعيد معادلات المواجهة مع إسرائيل، بعد خروج مصر منها. ليبيا تولت تغطية كل نفقات الخميني ومرافقيه، منذ اليوم الأول لوصولهم إلى فرنسا لاجئين، وتولى التواصل معهم، المرحوم أحمد الشحاتي، مسؤول العلاقات الخارجية في الاتحاد الاشتراكي العربي بليبيا. تحمس الرائد جلود لدعم إيران عسكرياً في حربها مع العراق، في حين كان العقيد معمر القذافي أقل حماسة. توليتُ رئاسة الجانب الليبي في اللجنة المشتركة الإيرانية - الليبية، وتكررت زياراتي إلى طهران وقم. لم يكن بيننا الكثير مما يجمعنا عملياً، فقضية اختفاء الإمام موسى الصدر، فعلت فعلها في إثارة الغبار على مسار العلاقات بين البلدين. تعقيدات الوضع في لبنان، والعلاقات الليبية مع الفصائل الفلسطينية، والقوى اللبنانية المتصارعة، سبَّبت بروداً في العلاقات. الدعم العسكري الليبي لإيران، دفع الحكومة العراقية لاحتضان المعارضة الليبية، وتقديم دعم عسكري لتشاد في حربها مع ليبيا. بدأت ليبيا في التواصل مع العراق، من أجل تسوية الخلافات بين البلدين، وقاد ذلك إلى تبريد العلاقة مع إيران.
كانت تلك سنوات الصدام والتموّج، في منطقة هزّتها الحروب، وتذبذبت فيها التحالفات.
في طرابلس التي تنقلتُ فيها بين الصحافة والثقافة والسياسة، لم أغب عن مصر ولم تغب عني. زارنا في طرابلس مذيع راديو صوت العرب أحمد سعيد. قضينا أياماً في أحاديث طويلة، يتدفق التاريخ فيها وتشتعل الكلمات. له قدرة على استدعاء ما كان، ويجسّده في سرديات لها ألوانها وشجنها، بكل ما بها من مرارة. الأديب الدكتور يوسف إدريس، زارنا في طرابلس وقضينا معاً أياماً في نقاش متنوع. الدكتور يوسف له قدرة فريدة، على الطواف مرفرفاً في رحاب الهموم العربية، وكأنه يكتب في كل حركة ووقفة قصة قصيرة، تضج بالصراخ، وأبطالها لا يدركون ما يفعلون. جاء الدكتور يوسف إدريس إلى طرابلس، في مبادرة إبداعية للمصالحة بين الرئيس السادات والعقيد القذافي. لم يقابله القذافي، وعاد إلى مصر وهو كظيم.
جلسة طويلة بطرابلس مع شخصيتين مصريتين، لعبتا دوراً سياسياً وعسكرياً محورياً، في عهد عبد الناصر، هما الفريق محمد فوزي، وزير الحربية الأسبق، وسامي شرف، مدير مكتب الرئيس عبد الناصر وصندوقه الأسود. جلسات متعددة مع الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان الجيش المصري في حرب السادس من أكتوبر. تلك الجلسات تستحق أن نخصص لها حديثاً طويلاً قادماً...