إيلاف من القاهرة: أقيم مساء أمس العرض الخاص لفيلم "إشتباك" تمهيداً لطرحه بالصالات السينمائية يوم الأربعاء المقبل، وسط حضورٍ فني ونقدي كبير لمشاهدة الفيلم الذي شارك بالدورة الأخيرة لمهرجان كان السينمائي الدولي.
وبخلاف صنّاع الفيلم الذين حرصوا على الحضور مبكراً، شارك أيضاً عدد من السينمائيين، ومنهم خالد النبوي، حورية فرغلي، خالد يوسف، ناهد السباعي، محمد العدل وأحمد الفيشاوي، فيما عبّرت نيللي كريم عن سعادتها بطرح العمل تجارياً، حيث حصل صناّع العمل على تصفيق حادٍ من الحضور مع انتهاء عرضه.
فكرة الفيلم
بداية مشروع الفيلم كانت مع المخرج والمؤلف المصري محمد دياب وشقيقه خالد، الذي تعاون معه في تأليف الفيلم، وبحكم مشاركة الأخوين في ثورة 2011، كانا يرغبان في صناعة فيلم عنها، ولكن بسبب سرعة وتيرة الأحداث منذ انطلاق الثورة، كانت كل فكرة تأتي لهما تصبح قديمة، حتى جاء خالد في 2013 بفكرة صناعة فيلم تدور أحداثه داخل عربة ترحيلات ضيقة ومغلقة وسيئة التهوية، فيصبح الفيلم قادراً على توثيق ما أصبح عليه المصريون بعد الثورة باختلاف أعمارهم وثقافاتهم وانتماءاتهم، وفي الوقت نفسه يكون الفيلم إنسانياً عن الرغبة في البقاء على قيد الحياة.
ووفقاً للأخوين دياب، استغرق العمل على السيناريو عامين كاملين، اشتركا خلالها في الكتابة من خلال عصف ذهني، ثم الإنتقال من كتابة مشهد إلى آخر، ولكن مع ذلك لم تكن النسخة التي انتهيا إليها هي النهائية للفيلم بالطبع، فبعد البروفات التي صنعها خالد مع الفنانين طوال 6 أشهر والأخذ بملاحظاتهم وبعد دراستها جيداً، أصبح هناك 13 مسودة من سيناريو الفيلم.
تفاصيل عديدة
بعد عامين من ثورة يناير 2011 في مصر، لا تزال القوى السياسية تتصارع على تولي زمام الأمور، وسط مظاهراتٍ معارضة للوضع وأخرى مؤيدة له، حيث تسعى قوات الشرطة لفرض الهدوء في الشارع وإخماد المظاهرات، فتلجأ إلى القبض على كل المشتبه بهم وتضعهم في عربات الترحيلات الخاصة بها، تمهيداً للتحقيق معهم، وبهذا يصبح داخل كل عربة ترحيلات أفراد لهم انتماءات سياسية مختلفة، وآخرون ليست لهم علاقة بالسياسة، ولكن القدر ساقهم إلى هذا المصير.
وعربة الترحيلات التي تدور داخلها أحداث الفيلم، تسير داخل شوارع القاهرة المشتعلة بالمظاهرات، وتضع الشرطة بداخلها كل من تعتقد أنهم مثيرون للشغب أو مشتبه بهم على أقل تقدير. ومن بين هؤلاء صحافي ومصور في وكالة أنباء دولية، الأول يحمل الجنسيتين المصرية والأميركية، وتؤدي هذه الجنسية المزدوجة إلى الاشتباك مع الشرطة والمعتقلين بجواره.
وينضم إليهما رجل أربعيني وابنه المراهق اللذان كانا يتظاهران بصحبة الأم، إلا أن الشرطة تلقي القبض عليهما فقط وتترك الأم التي تفتعل شجاراً حتى تنضم لهما، فيتم إلقاء القبض عليها هي أيضاً، مع الخمسة تتواجد مجموعة من المنتمين إلى الإخوان المسلمين، شيخ كبير وابنته، صديقان يعملان في تنظيم الأفراح الشعبية، بالإضافة إلى سائس كراج وآخرين.
ويتواجد هذا العدد في مساحة مغلقة لا تزيد مساحتها عن 8 أمتار، ولا يوجد معهم سوى هاتف محمول واحد يتصارعون عليه، كاميرا، شفرة حلاقة ومبولة بدائية، وفي ظل اختلافاتهم الفكرية، تتفاعل الشخصيات في لحظات من الجنون، العنف، الرومانسية والكوميديا أيضاً، ولكن مع استمرار احتجازهم والوضع غير الآدمي الذي يصبحون فيه داخل عربة الترحيلات الضيقة، وفي ظل اشتباكات خارجية بين الشرطة والمتظاهرين، تتماهى اختلافاتهم ويصبح هدفهم الأول هو الخروج من عربة الترحيلات سالمين والبقاء على قيد الحياة.
دياب
ويقول محمد دياب عندما جاءتنا فكرة الفيلم، كنت أفكر مع أخي خالد في صناعة فيلم عالمي يمكن للمشاهدين من كل أنحاء العالم الارتباط به، حتى لو كان غارقاً في موضوعه المحلي، إلا أن الناس تضحك على نكتة واحدة، وكلهم يمرون بمشاعر الحب والكراهية نفسها، ويتفاعلون مع أشياء مشتركة كثيرة، ورأيت أننا إن تمكننا من تطبيق ذلك بشكل صحيح، سيعبر الفيلم الحدود، وهذا ما بدأ في الحدوث بانطلاقة مهرجان كان السينمائي.
ويضيف: "بحكم دراستي في أكاديمية نيويورك السينمائية واحتكاكي بمخرجين من مختلف أنحاء العالم، كان يثيرني صُناع الأفلام القادرون على عبور الحدود بأفلامهم، مثل المكسيكيين أليخاندرو إيناريتو وألفونسو كوران اللذين استطاعت أفلامهما المحلية إثارة إعجاب الجمهور في مختلف العالم، كما أحب مخرجي أميركا الجنوبية على وجه التحديد مثل البرازيليين فيرناندو ميريليس ووالتر سالاس"، يستطرد "في اشتباك تأثرت بهؤلاء المخرجين وكيفية صناعتهم لمشاهد بها اشتباكات دامية، واعتبر أكثر من تأثرت به في هذا الأمر بول جرينجراس مخرج فيلم Bloody Sunday الذي استطاع من خلاله تصوير الاشتباكات بتكنيك أصبح كثيرون يقلدونه في الوقت الحالي، وعند ذهابه إلى أميركا وصناعة سلسلة أفلام The Bourne، قام بتصوير أفلام الأكشن بطريقته، بالإضافة إلى المخرج الفرنسي يان دومانج الذي كان فيلمه الطويل الأول "71" أن يلفت الأنظار إليه بأكشن مثير وغير معتاد".
تفاصيل التصوير
واستغرق تصوير الفيلم 26 يوماً على مدى 3 أشهر، وكما السيناريو، كان على دياب أن يجعل الفيلم الذي يدور في مكان واحد، هو عربة الترحيلات، مثيراً وممتعاً للجمهور، دون حاجة للخروج من العربة.
قبل التصوير تم العمل على صناعة عربة ترحيلات حقيقية من الداخل، ويكون من السهل إضاءتها، وأن تتحمل العدد الذي سيكون بداخلها، وقد كانت هذه مسؤولية هند حيدر مهندسة الديكور في الفيلم، والتي تقول إن أهم ما أخذته في اعتبارها عند تصميم عربة الترحيلات هو أن يكون ارتفاعها واقعياً، لأن الكاميرا ستلتقط المشاهد الخارجية من ارتفاع يماثل منظور الممثلين داخل العربة، كما تم تصميمها بطريقة تجعلها قابلة للفك والتركيب من نواحٍ عدة، وقابلة للاتساع أيضاً، بحيث تعطي مزيداً من الحرية أمام حركة الكاميرا والممثلين وفتح منافذ للإضاءة.
عربة الترحيلات التي تم تصوير الفيلم داخلها كانت عبارة عن موقع تصوير متحرك، وبسبب صعوبة التصوير داخل شوارع القاهرة، خاصةً حين يتعلق الأمر باشتباكات بين ضباط شرطة ومتظاهرين تتضمن استخدام الشماريخ والليزر والدخان، تم ضبط جدول تصوير الفيلم بأدنى حد ممكن من الوقت، فالمشهد الذي يجب أن يتم تصويره في 4 أيام، كان يتم ضغطه ليستغرق يومين فقط. في أحد أيام التصوير تحت مجموعة جسور في محافظة الجيزة، ظن بعض المواطنين أن التصوير عبارة عن اشتباكات حقيقية وتعطل المرور بعض الوقت وتدخلت الشرطة من أجل إعادة السيولة المرورية مرة أخرى.
صعوبات متعددة
عندما يكون لديك 25 شخصية في دور رئيسي لفيلم مستقل، التحدي الأكبر يصبح هو اختيارهم بالشكل الصحيح، لأن فيلم شديد الصعوبة مثل اشتباك يتطلب أن تكون هذه العملية بالنسبة له دقيقة للغاية، حيث تتمثل تحديات الممثلين في أن بعضهم سيظهر في بعض المشاهد وهم لا يقولون كلمة، ولكنهم سيظهرون في الكادر، فيجب الوضع في الاعتبار أن يكون الممثلون المختارون متفرغين تماماً للعمل، وهذا أدى بالضرورة إلى تغييرات كثيرة في الأبطال في مرحلة الإنتاج، وقد كان العامل الأهم عند الإختيار بالنسبة للمخرج ملامح كل ممثل ومراحلهم العمرية، بحيث يخلق تنوعاً وتعبيراً بقدر الإمكان عن المصريين بمختلف فئاتهم، فكان هناك مثلاً ممثلون جيدون، ولكن لم ينضموا للفيلم بسبب وجود من يشبههم من ناحية الشكل أو العمر وما إلى ذلك.
تدريبات مكثفة
استغرق تدريب الممثلين على تصوير أدوارهم 6 أشهر بالضبط، تمت خلالها صناعة عربة ترحيلات خشبية داخل استوديو خاص قامت بتصميمها هند حيدر مهندسة الديكور، وكان هذا التدريب أحد الأسباب الرئيسية في تطوير السيناريو، وبعد ذلك بدأ التصوير الفعلي.
حيدر
وبالنسبة لمدير التصوير أحمد جبر كان الأمر في غاية الصعوبة، لأن عليه أن يحمل الكاميرا داخل عربة الترحيلات مع الممثلين، كما أن الكادر لا يشمل الممثلين في العربة فقط، بل الممثلين والمجاميع الذين وصل عددهم في بعض الأيام إلى 700 شخص، لتكون عملية التحكم فيها من قبل المخرج صعبة أيضاً، كما أن الإضاءة يجب ضبطها بحساسية شديدة حتى لا يظهر مصدر الإضاءة في الكادر أو تكون الإضاءة غير واقعية، وفي هذا السياق يقول جبر: "أعتبر نفسي مصوراً محترفاً أعرف جيداً ما سأقوم به قبل كل عمل فني أشارك فيه، ولكني في اشتباك للمرة الاولى منذ وقت طويل أجد نفسي لا أدري ما سأقوم به بعد دقيقة واحدة وأتعلم من جديد".
تصوير مشاهد رش المياه على المتظاهرين في السيارة والاشتباكات بينهم وبين الشرطة لا يمكن تصويرها في مكان حقيقي، وهنا جاء دور هند حيدر، التي قامت بتصميم امتداد كامل لحارة في موقع تصوير يقع على أطراف الجيزة، ليبدو في النهاية كأنه حارة مصرية حقيقية، كما حدث الأمر نفسه في موقع تصوير آخر أسفل 3 كباري بالجيزة أيضاً يتم فيه إلقاء الشماريخ على الشرطة، فاختلقت حيدر سوقاً شعبية غير موجودة لإضفاء الروح على المكان، وليكون هناك مبرر واضح للإضاءة التي تصل إلى عربة الترحيلات.
وقد قام بتصميم المعارك في الفيلم كلٌ من عمرو ماكجايفر وأندرو ماكينزي، وفي إحدى المرات تحدث الأخير مع دياب أثناء تصوير أحد مشاهد الاشتباكات قائلاً إن المجاميع يضربون بكل جدية، لا يمكن أن يكون هذا تمثيلاً، ولا يمكنك أن تطلب إعادة المشهد لأنك لن تحصل على مشهد حقيقي أكثر من ذلك.
تفاصيل صعبة
طبيعة الفيلم فرضت على الممثلين تحديداً إصابات نفسية أكثر منها بدنية، فمع مدة تصوير حدها الأدنى 12 ساعة متصلة، شهد الأسبوع الأخير من التصوير إصابة بعض الممثلين بنوبات ذعر وفزع، وبعضهم كان يطلب الخروج من عربة الترحيلات سريعاً لأنه يشعر بالاختناق، كما أن هناك مجموعة من أبطال الفيلم ذهبوا إلى أطباء نفسيين بعد الإنتهاء من التصوير ليتعافوا نفسياً مما أصابهم.
على المستوى البدني كان الضرب حقيقياً رغم أن أدوات الضرب كانت غير حقيقية، ومع ذلك كانت عمليات الشد والجذب والدفع على سلالم عربة الترحيلات حقيقية إلى درجة وقوع إصابات لدى بعض الممثلين، وكان المجاميع يضربون بالحجارة بشكل حقيقي وهيستيري، حتى أن دياب اضطر إلى أن يصالح بعض الممثلين على بعضهم البعض، كما لم يؤثر هذا الضرب على الإعادات التي كان يطلبها المخرج، فكان الممثلون ينتهون من مشهد به اشتباكات دامية لينتقلوا إلى آخر بكل حماس.
ويحكي دياب عن تصوير أحد المشاهد التي تتطلب فيها رش المياه بعنف على المتظاهرين المقبوض عليهم داخل عربة الترحيلات لفض الاشتباك بينهم، حيث ظلت سيارة المطافي واقفة في الشمس ساعات طويلة أثناء النهار، وحين تم رش المياه عليهم سمع دياب صراخاً هستيرياً منهم، وظن أنه تقمص من الشخصيات للحدث، ولكنه اكتشف في ما بعد أن الصراخ ناتج عن سخونة المياه بفعل طول مدة تعرضها للشمس، ولولا إصابة الكاميرا بالمياه، لما أعاد دياب المشهد.
وفي أحد المشاهد التي يضرب فيها المتظاهرون شماريخ على الشرطة، انفجر دون قصد أحد هذه الشماريخ على ممثل يقوم بدور عسكري ويختبئ أسفل بانيو، فصرخ بصوتٍ عالٍ وبشكل حقيقي، نتيجة إصابته، وقد حاول الأخير إقناع دياب بإعادة المشهد، ولكنه رفض، ليس فقط من أجل الرأفة به، بل لأن ما تم تصويره في النهاية كان واقعياً لأقصى حد.
تصوير فوتوغرافي: شريف عبد ربه