ما إن تربَّع دونالد ترامب على عرش البيت الأبيض، حتى أشعل موقف اليوم التالي لحرب غزَّة، فالمنطقي أنه عقب انتهاء الحرب وعقد الهدنة هو إعادة الإعمار، والوصول إلى حالة الهدوء والاستقرار التي تضمن عودة النازحين والمُشرِّدين إلى ديارهم، ومن ثمَّ العمل على خلق سلامٍ دائمٍ، ولكن كان لترامب رأي آخر، وهو تصفية القضيَّة برمتها بتهجير سكان القطاع المنكوب، وتحويله - حسب خطته التي أفصح عنها أمام العالم أجمع- لمُنتجعٍ سياحيٍّ أطلق عليه «ريفييرا الشرق الأوسط».
أطماع ترامب جعلت فرحة المنطقة والعالم بوقف الحرب، نتيجة تدخُّله المباشر بعد فوزه في الانتخابات الأميركيَّة وحتى قبل تنصيبه رسميًا، وضغطه على نتنياهو، منقوصةً؛ إذ توقَّفت الإبادة فعليًا، ولكن وفي الوقت نفسه فتح ساكن البيت الأبيض بخطته الغريبة تلك بابًا جديدًا يعودنا إلى نقطة الصفر قبل 75 عامًا أو يزيد، والتي أعدَّها البعضُ بمثابة نكبة جديدة، خاصةً العالم العربي، الذي لم يقف حيالها مكتوفي الأيدي؛ حيث انتفضت غالبية بلدانه وكشَّرت عن أنيابها؛ بإصدار حكوماتها بيانات مُعبِّرة عن موقفها الرافض لهذا المخطط، وهو ما أحدث صدى في مؤسسات الولايات المتحدة، التي من المؤكَّد أنها دفعت بالرجل للتراجع عن نبرته الحادة ولهجته المُتغطرسة، وبالتحديد عقب لقاء ملك الأردن من خلال فيديو أشبه باعتذارٍ دبلوماسيٍّ.
وما هي إلا سويعات قليلة من هذا الهراء، حتى عاد ترامب يُهدِّد من جديد بالجحيم لـ «حماس» حال عدم تسليمها جميع الأسرى الإسرائيليين دفعةً واحدةً، وهو ما قُوبل بالرفض من الحركة، التي سلَّمت فقط العدد المُتفق عليه في بنود الهدنة لوقف الحرب، بواقع 3 أسرى، ورغم ذلك لم نرَ أو نشهد جحيمًا أو نعيمًا، بل تماهت هذه التهديدات وذهبت أدراج الرياح، فالأسلوب الذي ينتهجه رئيس الولايات المتحدة منذ توليه مهام منصبه، خالف قوانين أميركيَّة ودولية مُتعدِّدة، وهو ما لم يمر مرور الكرام، فثمة خطوة اتخذها للوراء بعد عنتريَّة شديدة بدت منه تجاه كندا والمكسيك والدانمارك وبنما وجيرانه اللاتينيين، وحديثه عن إلغاء اتفاقيات ثنائيَّة وقَّعها سابقوه مع دول أخرى، والأهم أنه تخلَّى عن تصريحه بشراء غزَّة، ورَاح وزير خارجيتة يُردِّد أن واشنطن تنتظر الخطة المصريَّة المُقترحة لإعادة الإعمار.
المُراقب للمشهد جيدًا يُدرك بلا شكٍ أن العالم يعيش أيامًا عصيبة، وفي القلب منه المنطقة العربيَّة، وسط ترقُّب الجميع لقمَّتين لهما ما بعدهما؛ ففي أولاهما تشهد القاهرة قمَّة عربيَّة لبحث القضيَّة التي تشغل الرأي العام العالمي، وهي إعمار غزَّة والإعلان عن الرد المُبين على المُقترح الأميركي بتهجير الفلسطينيين، أما ثانيها فهي التي تكون فيها الحرب الروسيَّة - الأوكرانيَّة على طاولة الحوار، والتي تجمع «بوتين» بـ «ترامب» لأوَّل مرَّة منذ 6 سنوات، بحضور الأمير محمد بن سلمان -ولي عهد المملكة العربيَّة السعوديَّة- بصفته المُستضيف للحوار المُنتظر على أراضيه.
توقُّعي أن نتائج القمَّة الأولى سوف تكون مُرضيةً للشارع العربي وللشعب الفلسطيني بالطبع، وتنتصر للتاريخ ، وستخرج بخطَّة تكون مقبولةً دوليًا لإعادة إعمار غزَّة بتمويلٍ ورعاية وتنفيذٍ عربيٍّ، إلى جانب إسهامات المانحين، وبأيادٍ مصريَّة فلسطينيَّة يُعاد ترميم وبناء المنازل والمنشآت الخدميَّة في القطاع خلال وقتٍ قياسيٍّ، مع ضمان بقاء السكان في أماكنهم.
أما الثانية، وهي قمَّة رئيسي روسيا وأميركا، فمُتوقعٌ أن تضع حدًا وتكتب سيناريو الحلقة الأخيرة من الحرب الروسيَّة - الأوكرانيَّة التي أرَّقت العالم وأرهقت اقتصاديات دولٍ عِدَّة، وعاد ضررها على شعوبٍ كثيرة خاصةً تلك المُعتمدةِ على واردات القمح من كييف وموسكو، أو حتى الدول المُتقدِّمة التي تتخذ من إمدادات الغاز الروسي مصدرًا حيويًا لمعيشتها ودوران آلاتها ومصانعها.
ومن أهم ملاحظاتي على هذه القمة المُرتقبة، هو اختيار مكان انعقادها بالسعوديَّة، وبحضور سمو ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، والتي أعتبرها بمثابة اعترافٍ ضمنيٍّ ليس فيه مواربة بمكانة المملكة سياسيًا واقتصاديًا، ومحوريَّة دورها وثقلها الإقليمي والدولي، إضافةً إلى أنها تأتي تتويجًا وعرفانًا بجهود سمو الأمير، خلال السنوات القليلة الماضية، في لعب دورٍ مُؤثِّر لحلْحلة الخلافات الكبرى بالمنطقة والعالم، واتباعه سياسة مُتزنة حَكيمة كان عنوانها العريض «الحياد»، فلم يمل طوال أمد الصراع المُمتد حتى اليوم لكفة أحد طرفي الحرب الروسيَّة الأوكرانيَّة، بل قام بدوره الإنساني في تقديم المساعدات الإنسانيَّة للمتضررين واللاجئين في دول الجوار الأوروبيَّة.
حافظ الأمير محمد بن سلمان أيضًا على علاقاتٍ قويَّة مع روسيا والصين، بل شهدت الفترة الماضية تعزيزًا وتدعيمًا لهذه العلاقات بشكلٍ يرقى لمستوى الصداقة والثقة المُتبادلة، هذا إلى جانب تمتُّعه بعلاقةٍ طيبةٍ مع الحليف الأكبر الولايات المتحدة الأميركيَّة، الأمر الذي جعل اقتراح السعوديَّة لاستضافة هذا اللقاء المهم مقبولًا ومرغوبًا لدى الأطراف كافةً؛ فالرياض كانت - ومازالت- على مسافة واحدة من الجميع، والعلاقة الشخصيَّة التي تجمع سمو ولي عهد المملكة بالزعيمين تُمكِّنه من لعب دور الوساطة بين الطرفين؛ لتمرير بعض نقاط الخلاف والوصول إلى خلفيَّة مُشتركة يُمكن البناء عليها لفض الاشتباكِ.
وربما من النقاط الأخرى التي جعلت ترامب يقترح إقامة اللقاء على أرض المملكة، هو محاولة تلطيف الأجواء بعد التصريحات المُستفزَّة التي خرجت منه وحليفته تل أبيب بشأن تهجير الفلسطينيين، وهو ما قابلها موقف الرياض الصلب، الذي كان بمثابة صخرة تحطَّمت عليها هذه الأطماع، وأيقن ترامب بعدها استحالة تنفيذ طرحه المُتعجرف والمنحاز لإسرائيل على حساب الفلسطينيين، لذا حاول تلطيف الأجواء والتودد للمملكة بهذا المقترح، الذي يأمله ويتمناه أي لاعبٍ سياسيٍّ على الساحة الدوليَّة والعالميَّة.
وأتوقَّع أن تتسع دائرة المباحثات في القمة لتشمل عددًا من الملفات العالقة بين الجانبين؛ أولها وقف آلة الحرب، وتبادل المواطنين الروس والأميركيين، وتطورات الأوضاع في الشرق الأوسط، وبرنامج إيران النووي وتفعيل الاتفاقيات السابقة المُبرمة بين الجانبين.
لا شك أن هناك حالة عدم رضا أوروبي وسخطٍ واسع المدى من تحركات واشنطن المُنفردة في هذا السياق، وسعيها لوقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا تماشيًا مع مصلحتها الخاصة فقط دون مراعاة الشُّركاء، علمًا بأن الأوروبيين أكثر من تضرَّروا اقتصاديًا من رضوخهم لقرار الولايات المتحدة بفرض عقوباتٍ على موسكو، ووقف الاعتماد على الغاز الروسي زهيد الثمن واستبداله بالأميركي الأغلى سعرًا، كل هذه المُعطيات أدَّت إلى عقد اللقاء الأهم ربما في 2025 في ضيافة الرياض.
وتبقى الأيام المُقبلة حُبلى بالمفاجآت وتحمل في طياتها تفاصيل كثيرة تُحدِّد معالم السياسة الدوليَّة وشكل الصراعات المستقبليَّة وميزان القوة فيها، دعونا ننتظر لنعرف هل تكون قمة السعودية بدايةً لتهدئة حقيقيَّة يحتاجها العالم لالتقاط الأنفاس؟ وهل تتخلَّى أميركا عن حلفائها الأوروبيين لمراضاة الروس؟ وكيفية تعاطي الأوروبيين مع خسائرهم من هذا الصراع، وما يُمكن أن تفعله حكوماتهم لحفظ ماء الوجه الذي عكَّرته واشنطن؟ وهل تستأنف دول القارة الصفراء علاقتها مع موسكو مرَّة أخرى؟ أيضًا الثمن الذي سوف يدفعه بوتين حتى يُوقف دائرة الحرب التي تستنزف جيشه؟ وما موقع أوكرانيا من تلك التسوية التي تتم في أجواء العرب الدافئة بعيدةً عن صقيع أوروبا؟ وماذا يجني العالم من هذه المصالحة إن تمت؟ والكثير من الأسئلة والإجابات ينتظرها الشارعان الغربي والعربي عسى أن تُثلج الصدور بعد سنواتٍ من الأزمات المُتلاحقة.