يُعد جوهان لودفيج بوركهارت من أبرز الرحالة الأوروبيين، وهو مؤرخ ورحالة ومستشرق سويسري من الذين زاروا شبه الجزيرة العربية، ووُصِفَ بأنه من أكثرهم دقةً وإنصافًا في نقل ما شاهده. درس بوركهارت في بريطانيا الدين الإسلامي واللغة العربية، ثم قام برحلة مع قافلة الحج إلى مكة المكرمة في فترة الدولة السعودية الأولى. تُعد كتاباته مصدرًا مهمًّا وملهمًا لها، لكونها قريبة من زمن الأحداث التي وثقتها، وهو ما يجعلها مرجعًا معاصرًا لها. اعتمد في نقل معلوماته على مشاهداته الشخصية والتحليل الاجتماعي للمجتمع آنذاك، إضافةً إلى الروايات الشفهية وعدد قليل من المصادر المكتوبة، وله كتابات عظيمة عن التأسيس والدولة السعودية الأولى.
كيف يمكن لمفهوم الدولة - التي كان مبدأ إنشائها بسبع جمالة - استيعاب شعب الجزيرة العربية الذي تشكل باديته الأغلبية العظمى من سكانها؟
كيف يمكن لمفهوم السلب والنهب من خلال النفوذ والقوة والحصول على الغنائم من الأضعف أن يزول فتتكون لدى الشعب فكرة لدولة تقوم على النزاهة والدين الإسلامي والاستقرار الأمني والسلام؟
أجاب بوركهارت بحس المستشرق والمؤرخ والرحالة على تلك التساؤلات بنقلها التاريخي بواقعية عالية من خلال صفحات كتابه.
إصلاح قضائي
قدّم بوركهارت رؤية مستشرق من خارج الجزيرة العربية عبّرت عن وجود قيم للدولة لأول مرة يشعر بها ساكن الجزيرة العربية، ففرضت عليه كإنسان ملزم بها أمام الدولة، منها الاستقرار والسلام الذي لم يُعرف منذ قرون في الجزيرة العربية، وكيفية التعامل مع القبائل وسياستها، وكيفية احترام القضاء لأول مرة منذ قرون أيضًا، ومنع استخدام القوة والسلاح، كانت هذه الحكمة رؤيةً وتوجهًا جديدًا لسكان الجزيرة العربية حيث إن الدولة هي المسؤولة عنهم.
هؤلاء القضاة كان كل القبائل يتحاكمون لديهم، ويشكل القضاء من أهم مخرجات الدولة العلمية من الدرعية العاصمة وخارجها من رجال عرفوا باستقامتهم، حيث كانت المخصصات تصرف بشكل مباشر من قبل الدولة كقانون جديد بديل للأعراف المتعارف عليها سابقًا في القرون الماضية لدى سكان الجزيرة العربية، حيث كانت المصروفات تدفع بين المتخاصمين لمناقشة القضية والبت فيها.
وفي القضاء أضيف كذلك حق نقض القرار مكفولاً لدى الدولة السعودية الأولى في كل أقاليمها من خلال مراجعة الدرعية تحديدًا للنظر في استئناف القرار، وهذا استحداث جديد في نظام قضائي مختلف عما سبق في تاريخ المنطقة.
معالجة أمنية
كذلك تحدث بوركهارت عن معالجة السعوديين الأوائل لمفهوم السلام الأمني الجديد على سكان الجزيرة العربية تمثل في تأمين البلاد بأسرها، حيث كانت الدولة توكل لشيوخ القبائل وأمراء البلدان المسؤولية التامة عن التحقيق في قضايا السرقات التي كانت تجري داخل أراضيهم، فكانوا يعاقبون بغرامة مساوية للقيمة المسلوبة من الماشية أو الممتلكات التي تمت سرقتها. هذه الطريقة عُدّت أسرع معالجة أمنية تمت في شبه الجزيرة العربية، فأسهمت في إيقاف كل السرقات التي كانت تحدث لسكانها سابقًا في القرون الماضية.
وبذلك أخذ أمراء البلدان وشيوخ القبائل على عاتقهم مسؤولية هذا القرار الذي يجعل منهم ولاة يسهرون على حماية الجيران والمارّين مثلما يسهرون على حماية أملاكهم، وترتب على ذلك توقف تام للسرقات وعمليات النهب والسلب التي كانت تتم في الماضي، وشعور الفخر والزهو باستيلائهم على أملاك الآخرين أصبح من الماضي بعد مفهوم الدولة، وهذا لم يحدث لدى سكان الجزيرة العربية بكل هذا الضبط منذ العهد النبوي ودولة الخلافة الراشدة.
ذكر بوركهارت أن بوسع التاجر أن يعبر وحيدًا في الجزيرة العربية وهو آمن تمامًا، وأن البدو ينامون دون خوف من لصوص الليل على مواشيهم وأملاكهم.
تحدث بوركهارت عن الحرس الخاص للإمام، وهو ما يسمى بالمنقية، وهم من أشجع فرسان الجزيرة العربية والمحاربين العظماء، وأنهم مقيمون إقامةً دائمة في الدرعية، وهم عبارة عن قوة نظامية لدى الدولة، ومن شروط الانضمام إليها أن يكون الرجل فارسًا بارزًا وذا صيت بين قومه قبل أن يكون كذلك لدى الغير، ويتم تسليمه الذلول المناسبة من الإسطبل الملكي، وتصرف رواتب له ويجهز على أعلى مستوى، وحتى الفَرَس أو الذلول تجهز بالأدوات والمواد المكونة من الصوف المكسو باللباد، وهو ما يصعّب اختراق جسم الذلول أو الفرس من السيوف أو الرماح.
بروتكولات الدولة
يلاحظ في كتابات بوركهارت التفصيل الاجتماعي العظيم في حالة الدولة، وتذكر النصوص تحديدًا مرحلة الإمام سعود بن عبدالعزيز في حالة كتابة تاريخية قد لا نجدها إلا نادرًا لدى المؤرخين المحليين في إعجابه بأناقته وأن الإمام كان شديد الاهتمام بمظهره ومحياه الطيب، وكذلك في تشذيب شاربه ولحيته، وأنه لا يتميز باللبس عن البقية إلا في فخامة الملبس ونظافته والعطور التي تفوح من غترته.
كما تحدّث بوركهارت عن تفاصيل دقيقة تتعلق باحترام الوقت دون التخلي عن العادات والتقاليد العربية، وعن بروتكول قصر سلوى في حي الطريف الذي يسكنه الإمام سعود وكيفية استقبال أمراء البلدان وشيوخ القبائل، وعن انشغال القصر في الدرعية بالضيوف، وتقديم الغداء والعشاء وحتى إطعام الخيول والإبل للضيوف القادمين إلى القصر.
كانت أوقات المجلس للاستقبال على ثلاث أوقات: بعد الفجر الباكر، وبعد العصر حتى غروب الشمس، ثم بعد ذلك يبدأ الاستقبال بعد صلاة العشاء في وقت متأخر من المساء، ويخصص هذا الوقت غالبًا لعائلة الإمام ونسله الذي يصادف وجودهم في الدرعية، وكل من يريد مقابلة الإمام عليه بكل بساطة أن يتوجه إلى المجلس. أما الألقاب التي ينادي بها العوام الإمام فهي: سعود، أبو عبدالله، أبو الشوارب، وكان المجلس لا يخلو من القرآن الكريم والحديث والتفسير والثقافة من علماء القصر، والإمام سعود هو من يختم الجلسة بتناول الكتاب المراد شرحه، وبعد ذلك مناقشة العلماء فيما تضمنه من العلوم بشكل مباشر ونقاش جادّ بين وجهات النظر.
وبشهادة بوركهارت كان الإمام سعود يتفوق عليهم بالمعرفة الثقافية العالية والحوار والإقناع، وهذا ما يتبين في كتاباته العالية المستوى في الإقناع، وكان مثار تساؤل وإعجاب خصوصًا في طلاقته وصوته العذب الرخيم، وهو ما يجعل كلامه يصل إلى قلوب العرب الذين من حوله.
كان سخاء الإمام وإنفاقه على ضيوفه مثار دهشة لدى هذا المستشرق، وخصوصًا في وصف إسطبل الخيل العربية الذي يحوي 2000 من الخيل العربية، وكذا عدد أسرته وحاشيته الذي يبلغ 500 شخص، ويتم إطعامهم جميعًا مع ضيوف القصر بما يكفي من الأرز والبرغل والتمر ولحم الضأن.
الإمام الوالد
يصف اهتمام الإمام بتربية الأبناء، ومن ذلك تربية ابنه عبدالله - الإمام فيما بعد - بتعليمه وهو في عمر خمس سنوات ركوب الخيل فيجعلها تعدو به، وبمتابعة سلوكيات أبنائه الاجتماعية وتعليمهم الحكمة والمشورة الصالحة.
كان الإمام سعود مضرب مثل في الحكمة ومعالجة الإشكالات بشكل سريع، مثقف وعلى درجات عالية من الفهم ومستوى رفيع في فهم السياسة، وأنه هوازن في الحث مع أنهم أعظم من مورس عليهم ذلك النظام كانوا غير راضين بذلك إلى أن أصبحت له شعبية عالية لدى سكان الجزيرة العربية، وقد ابتدأت مشاركاته الحربية وعمره لم يتجاوز 12 سنة، وتحدث بوركهارت عن علاقته بأبنائه وقربه منهم، ويظهر ذلك لكل من زار حي الطريف من خلال ملاحظة قرب قصر الإمام من قصور أبنائه، وهو أيضًا شاهد على عظمة الدولة السعودية الأولى.
من أهم اللحظات العائلية العاطفية الخاصة بالإمام سعود أنه عندما كان في الحج أمام باب الكعبة في الوقت الذي كان السعوديون يكسون الكعبة بالكسوة الجديدة القادمة من الأحساء، ومع انشغاله بمتابعة الحجيج بالطواف حول الكعبة في تلك اللحظة ظهرت زوجة ابنه فهد وهي تحمل طفلها بين ذراعيها، كانت تلك الزوجة قد وصلت لأداء الركن الخامس وسارعت متجهة إلى الإمام سعود لرغبتها في أن يرى الإمام سعود الجد حفيده الذي لم يره من قبل، أخذ الإمام الطفل أمام كل الحجاج في لحظة حنونة واحتضنه وقبّله بحنان مدةً طويلة من الوقت.
أعجبني في بوركهارت إلمامه بالتفاصيل الاجتماعية وصدق تعبيره؛ وهذا ما يميز كل كاتب عن أمة معيّنة يراها من خارج بيئته بعين غربية مختلفة، ويكتب تفاصيل دقيقة قد يشعر الناس في وقتها أنها غير مهمة، لكنها تصبح في الغد مصدرًا مهمًّا في طلب تلك التفاصيل ودراسة تلك الحقبة لفهم أعمق عنها.
شكرًا بوركهارت على ذلك النقل الذي نقلنا إلى الدولة السعودية الأولى بتفاصيل عجيبة ودقة تصوير للأحداث.