في بداية القرن العشرين، كانت بغداد تعيش تحولات اجتماعية عميقة، تقاطعت فيها السياسة مع الاقتصاد لتنتج واقعاً معقداً انعكس على كل طبقات المجتمع. في قلب هذه التحولات، كانت بعض الأحياء مثل الميدان والبتاوين وطاطران تشتهر بنشاط لا يخلو من الفضائح: بيوت الدعارة التي أدارتها أو عملت فيها النساء اليهوديات. وكانت هذه الظاهرة، التي ارتبطت بيهوديات ذوات فكر صهيوني من خلفيات اجتماعية فقيرة، نتيجة شبكة معقدة من الظروف الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية التي دفعتهن إلى هذا المصير.
من بين تلك النساء، برزت أسماء أصبحت حديث الناس في بغداد لسنوات. (مدام لويزا)، على سبيل المثال، كانت معروفة في حي الميدان كإحدى أبرز مديرات بيوت الدعارة، مستغلة الظروف الصعبة التي واجهتها الفتيات الفقيرات والمهاجرات إلى بغداد. بحكم علاقتها القوية مع بعض الجنود البريطانيين، كانت لويزا تمتلك نفوذاً واسعاً، ووفرت الحماية للكثير من بيوت الدعارة التي ازدهرت خلال فترة الاحتلال البريطاني. (روزا اليهودية)، بدورها، كانت تدير شبكة أصغر في حي طاطران، لكنها اشتهرت بأساليبها القاسية في السيطرة على الفتيات اللواتي وقعن في فخ هذا العالم المظلم.
لم تكن هذه النساء مجرد عاملات أو مديرات لبيوت الدعارة، بل كنّ جزءاً من مشهد أكبر، حيث كانت هذه الأماكن تُستخدم أحياناً كمراكز تجسس غير رسمي في ظل وجود قوات الاحتلال البريطاني. بعض المؤرخين يشيرون إلى أن السلطات البريطانية كانت على علم بوجود هذه الشبكات، بل وربما تغاضت عن نشاطاتها لضمان الاستقرار في بعض الأحياء المشتعلة. في هذا السياق، برزت (نغم البغدادية)، وهي يهودية عُرفت بهذا الاسم المستعار، كواحدة من أبرز الوجوه المرتبطة بالدعارة الراقية، حيث استهدفت نخبة المجتمع البغدادي وبعض الشخصيات البريطانية بإقامة حفلات ماجنة للطبقة المخملية وأعوان المحتلين.
إقرأ أيضاً: أسرار الفاتيكان: بين صرح الإيمان ودهاليز المال
مع بداية الأربعينيات وتصاعد التوترات الطائفية والسياسية في العراق، بدأ المجتمع اليهودي في بغداد يشعر بضغط متزايد. كانت سنوات ما بعد فرهود 1941 نقطة تحول بالنسبة ليهود العراق، حيث انقلبت حياتهم رأساً على عقب. كثير من اليهوديات العاملات في مجال الدعارة وجدن أنفسهن في مأزق جديد: إما البقاء في بغداد تحت تهديد مستمر أو البحث عن فرصة للهجرة.
لم تكن هجرتهن إلى إسرائيل رحلة تقليدية، بل كانت أشبه بفرار من حياة مثقلة بالفضائح والمآسي. بعضهن استُغللن من قبل شبكات التهريب التي وعدتهن بحياة جديدة في تل أبيب أو مدن أخرى في إسرائيل، لكنها في الحقيقة لم تكن إلا استمرارية لنمط الحياة نفسه ولكن تحت مسميات جديدة. تل أبيب، التي كانت آنذاك في طور التوسع، استوعبت العديد من المهاجرين من العراق، وكان من بينهم هؤلاء النساء. إلا أن اندماجهن في المجتمع الإسرائيلي لم يكن سهلاً على الإطلاق، خاصة مع ماضيهن الذي لم يستطع كثير منهن الفرار منه.
وصلت بعضهن إلى إسرائيل ووجدن أنفسهن في أحياء فقيرة مثل يافا والكرمل، حيث أعادت بعضهن العمل في المجال نفسه الذي هربن منه. وفقاً لبعض الشهادات، استمرت الشبكات نفسها التي عرفنها في بغداد بالعمل في تل أبيب ولكن بوجوه جديدة. هؤلاء النساء، اللواتي كنّ يأملن في حياة جديدة أكثر استقراراً، واجهن صدمة اجتماعية وثقافية، حيث لم يكن المجتمع الإسرائيلي الناشئ متسامحاً مع ماضيهن.
إقرأ أيضاً: هل نقترب من مرحلة توجيه العقول؟
لكن، مع مرور الزمن، تغيرت قواعد اللعبة. بعض النساء اللواتي كنّ جزءاً من عالم الدعارة في بغداد أصبحن شخصيات نافذة في المجتمع الإسرائيلي، بعد أن غيّرن هوياتهن وتخلصن من ماضيهن. دخلن عالم السياسة أو الأعمال، واستثمرن العلاقات القديمة في بناء حياة جديدة تحت غطاء من الاحترام الظاهري. المثير في الأمر أن بعضهن، أو ذريتهن، أصبحن مؤثرات في مراكز صنع القرار، محصنات ضد أي تحقيق أو تساؤل حول ماضيهن.
تحت أضواء تل أبيب، ضاعت قصص الماضي وسط السرية والإنكار، لكن الحقيقة تظل حاضرة في كل زقاق من أحياء بغداد القديمة، حيث بدأت تلك الرحلة الغامضة التي انتهت بإعادة تشكيل النفوذ في عالم جديد لا يسأل عن الجذور، بل يحتفي فقط بالنتائج.